الرياضة
خبرة روحيّة في الصلاة تغيّر الحياة. وإذا لم تفعل هذا، لم تَعُد خِبرة روحيَّة أصيلة. إذا لم تتغيّر حياتنا
تكون هذه الخبرة غير صحيحة. وما معنى أن تتغيّر حياتنا؟ باختصار: أن نجد
الفرح، أي أن نحبّ حياتنا، أن نقتنع أنّ حياتنا تستحقّ أن تُعاش. القدّيس
إغناطيوس اختبر أنّه يعيش على موجتين: واحدة تقوده إلى فرح عميق ومستمرّ وأخرى
تلهيه عن الحزن إلى حين ثمّ تتركه يابس النفس مضطربًا. وبدأ عندها بالتمييز بين
روح الله وروح العالم. هدف الرياضات أن نتبع موجة الله. أن نعرف أين فرحنا وما
الّذي يعرّضنا للحزن. هي خبرة تغيّير الحياة لكي ترينا لمسة الفرح ولمسة الحزن لكي
نميّز بينهما حتّى نجد الفرح الّذي يدوم.
أن تتغيّر
حياتنا لا يعني ألّا نخطأ من بعد ولا أن تتغيّر ظروفنا وتصبح أسهل. بل نجد الفرح
في حياتنا أي أن أريد هذه الحياة الّتي أعطاني إيّاها الله. اكتشف القدّيس
إغناطيوس أنّ الناس لا يحبّون حياتَهم. الاختبار الروحيّ وحده قادر على أن يغيّر
الحياة (مثل أيّوب الّذي لَعَنَ لحظة مولده وغيَّر موقفه في آخر القصّة وانتقل من
اللعنة إلى البركة لأنّه اختبر الله بشكل شخصيّ: "كنتُ قد سمعت عنك سمع
الأذن، أمّا الآن فعيني قد رأتكَ.")
كلّ إنسان
هو قصّة مُقدَّسة يعني أنَّ كلَّ إنسان يستطيع أن يكتشف أنَّ في حياته فرحًا. لم
يُخلق الإنسان للتعاسة بل للفرح والهدف هو أن نكتشف هذا الفرح. الّذي يختبر
الرياضة يعيش هذه "النقلة النوعيّة". وهي ليست نقلة دائمة ولا تتغيّر بل
كما يقول المزمور "حتّى إن مررتُ في وادي ظلال الموت لا أخاف لأنّك
معي".
٢. شروط الدخول في هذه الرياضة :
§
الإيمان بأنّ الله ينتظر هذه الرياضة أكثر منّي. أنا
أحبّ أن تتطوَّر علاقتي معه ولكن هو يريد ذلك أكثر منّي. الأديان تعبّر عن الشوق
إلى الله. الّذي يحرّرنا هو أنّ الله أتى إلينا وتعرَّض لإرادتنا ونعرف ما كانت
النتيجة. الله أتى من أجل خلاصنا. يجب أن يكون عندنا الثقة أنّ الله يريد هذه
الرياضة.
§
السخاء: أن أعطي الوقت والجهد اللازمين لهذه الرياضة وأن
أكون كريمًا معه. النوايا لا تُعطي النتيجة. يجب تخطّي النوايا والذهاب إلى
التنفيذ. أن أكون كريمًا بالرغبة أَي أن آتي إلى الرياضة برغبة. مثلما قالت تريزا
الطفل يسوع: "رغباتي أوسع من الكون". وأن أكون سخيًّا يعني أن أقبل
رياضتي بالظروف الّتي أنا فيها. الّذي يقبل ظروف رياضته يقبل أن يتصرَّف الربّ
بكلِّ الظروف.
§
يجب أن أجد في نهاري وقتَيْن أكرِّسهما للصلاة. الأوَّل،
مفضَّل أن يكون في الصباح، أن آخذ 20 دق أو 30 دق للتأمّل في الكتاب
المقدَّس. وفي نهاية النهار، أقوم بقراءة النهار (١٠ دق).
§
نتعلّم كيف نعيش التمارين عندما نمارسُها كلّ يوم، لذا
يجب الثبات في هذه التمارين.
§
المرافقة الروحيّة الشخصيّة تكيّف الرياضة على ظروف كلّ
مشارك، فهي مفيدة جدًّا لكي أحصل على ثمار أوفر في الرياضة.
§
أستفيد قدر استطاعتي وبحسب إمكانيّاتي من مجموعة نشاطات
إلى جانب الرياضة:
-
فرق المشاركة: نجتمع بعد الحديث يوم الخميس في فرق صغيرة
نتشارك فيها بخبرة التأمّل خلال الأسبوع المنصرم. تتشكّل فرق في مناطق مختلفة في
أيّام مختلفة، مثلاً حول الأخت ناهدة في دير مار الياس الراس في كسروان، أو حول
جنفياف في منطقة جبيل، أو حول الشمّاس بشّار في الشام، ...
-
القدّاس يتخلّله التأمّل في نصّ الإنجيل، يوم الأحد
الساعة 7:30 مساءً في قبو كنيسة مار يوسف في Monot
-
القدّاس يوم الخميس يتخلّله سجود واعترافات، يوم الخميس
الساعة السادسة مساءً في بدارو، عند راهبات الفرنسيسكانيّات
-
قدّاس الجمعة مع الأب زكي صادر في بكفيّا، دير سيّدة
النجاة، الساعة 7:45 مساءً
-
الصلاة الإغناطيّة في دير راهبات مار يوسف-ليون في دير
الحرف، يوم السبت 19 ت1 الساعة السادسة
-
نشاطات روحيّة أخرى يُعلن عنها في حينه.
٣. توجيهات
تخصّ الصلاة
§ ليست الصلاة
نشاطًا نقوم به، بل هي تسكننا، ونجدها فينا، وإذا اكتشفناها وسمحنا لها أن تفيض من
الداخل إلى الخارج تحقّق فينا تغييرًا عميقًا.
§ يعوقنا عن
إيجاد الصلاة أنّنا نظنّها شيئًا نقوم به، فتتحوّل إلى "واجبات" أشتري
بها نعمة الله، وتصير صلاتي وثنيّة لا تروي ولا تشفي.
§ ما يعيق
الصلاة أيضًا أنّنا لسنا على موجة الله. الإنسان يشبه جهاز الراديو وكثيرًا ما
يتأثّر بتشويشات العالم. سنتكلّم بالكفاية عن هذه التشويشات لاحقًا. أتذكّر الآن
أنّ أفكاري القديمة المطبوعة بعادات الحزن الّتي ورثتها عن مجتمعي تمنع الصلاة من
إروائي كما تمنع المياه الراكدة المياه الجوفيّة من الخروج. لذلك نستخدم
طريقة للتأمّل ، تساعدنا على تخطّي العقبات العاديّة.
سنكمل
هذه التوجيهات طوال مدّة الرياضة.
حديث رقم 2
1. من الحزن إلى الفرح
التغيير الّذي نطلبه في هذه الرياضة هو مجيء الفرح إلى حياتي، لأنَّ الإنسان حزين. هذا الحزن ليس ذاك الّذي يظهر بالتعابير الخارجيّة، بل هو شعور الإنسان العميق بأنّ حياته لا تستحقّ أن تُعاش. يردّد كلمة لو (لو كان أهلي غير ولو كان مُحيطي غير). كلمة "لو" هي علامة هذا الحزن. ومن هذا الحزن يصدر كلّ شيء عاطل في تصرّفاتنا. سنرى في الكتاب المقدّس كيف أنّ كلّ عنف، كذب أو شهوة تنطلق من هذا الحزن.
الهدف من هذه الرياضة أن نختبر الفرح، نكتشف الحزن ونفتح المجال للربّ بأن يشفيه. والفرح أختبره عندما أحبّ أن أكون أنا. الفرح ليس "الضحك" وليس عندما لا يكون هناك أي حزن وهذا لا يعني أنّي لن أبكي من بعد بل هو القناعة أنّ حياتي تستحقّ أن تُعاش. رأينا في سفر أيّوب الانتقال من الحزن إلى الفرح، لا أحد يستطيع أن ينقل أحد من الفرح إلى الحزن. وحده الله يستطيع أن ينقل الإنسان من أن يرفض ذاته إلى قبوله إيّاها. لا شيء آخر، ينقل الإنسان من الحزن إلى الفرح، لا العقيدة ولا التقشّف ولا العبادة. وحده الاختبار مع الله واللقاء معه؛ هذا هدف التمارين الّتي نقوم بها.
هذا اللقاء مع الله نسمّيه تمرين لأنّ التمرين لا ينجح من أوّل مرة لذلك نختبر أنّ التمرين كان صعبًا أو سهلاً. التمارين هي دومًا مُفيدة حتّى لو كانت صعبة أحيانًا. الأهم في الرياضة هو المثابرة. ليس من الضروريّ أن نتأمّل في كلّ النصوص. الصلاة هي الأهمّ ويجب أن نبقى في النصّ الّذي نتلذّذ به، حتّى ولو أعدناه عدّة مرّات. الأساس أن أمضّي الوقت مع كلمة الله وهي تعرف كيف تعمل فيَّ.
2. الصلاة الوثنيّة والصلاة المسيحيّة
الصلاة الوثنيّة هي الّتي تتعامل مع الله وكأنّه صنم، وكأنّه "الإله الّذي يجب إرضاؤه". في حياتنا نجد كثيرًا من الأصنام، من الآلهة الّتي يجب إرضاؤها: أشخاص لا يجوز ألاّ نخالفهم الرأي، أو أن نخيّب آمالهم. الله يرفض أن يكون إله الأمر الواقع، الإله الّذي يفرض نفسه فرضًا. يرفض أن يكون الإله الّذي يجب إرضاؤه. إلهنا حرّيّة لا خضوع. الصلاة المسيحيّة ليست تلك الّتي تسعى إلى استرضاء الله لتتّقي شرّه أو لتقنعه بإعطاء النعمة. إن كان من ضرورة للإلحاح في الصلاة، ليس ذلك لأنّ الله ليس مستعدًّا للعطاء، بل لأنّنا نحن لسنا مستعدّين للأخذ. الصلاة تضعنا على الموجة نفسها مع الله، على مستوى رغبته في العطاء، لكي نأخذ ونحيا ونفرح. النظرة الوثنيّة هي نظرة حذر: الله لا يريد سعادتي، وعليّ أن أحصّلها بالجهد وبثمن. إلهنا يريد سعادتنا، ويعطي مجّانًا. للجهد مكان، لأنّ قلبنا منقسم، لا لأنّ الله عنيد.
3. الكلمة الخالقة
ما هي هذه الصلاة الساكنة في داخلي؟ ما الّذي يعطيني الحياة؟ متى أختبر أنّني مليء بالحياة؟ أفي أوقات سعيدة أو أشخاص أو مناسبات؟ أين أجد فرحي؟
عندما أكون بحضور شخص آخر يحبّني مثلما أنا أكتشف أنني بدأت أن أحب حياتي وأكتشف الحياة الّتي في داخلي. أشعر بهذه الحياة عندما أكون أمام أحدًا يباركني، يقول لي أنّني مهمّ له، أننّي كريم في عينيه. عيد ميلادي هو بركة وحياتي للأشخاص الّذين حولي هي بركة تحمل شيء. هي نعم لوجودي (أريدك، أرغب فيك وأحبّك). البركة الأساسيّة هي مع الله الخالق. يقول سفر الحكمة 11: 24-25: " إنّك تحبّ جميع ما خلقت ولا تمقُت شيئا مما صنعت فإنَّك لو أبغضت شيئا لم تكوِّنه وكيف يبقى شيء لم ترده أم كيف يثبت شيء ما لم تدعه إلى الوجود؟". الخلق ليس عملًا قام به الله بل هو كلمة وصوت يقوله لي "كُن" ويدعوني إلى الوجود. يباركني في كلّ لحظة. مصدر الحياة الّذي يسكن فينا هو هذا الصوت وعندما أجد هذا الصوت أعيش وعندما أنساه أموت. هذا الصوت نجده في بعضنا البعض قبل أن نجده في الصلاة. لو لم نشعر أن أحدًا يرغب في أن نعيش لما كنّا نعيش. كلّ مرّة نختبر هذا الشعور نعيش وكلّ مرّة ننساه نموت.
ما الّذي يبعدنا عن كلمة الخلق؟
هناك أصوات كثيرة حولنا تقول لنا ألا نكون أو أن نكون شيئًا لكي نكون محبوبين. رعبنا الأعمق هو أن نُنسى، فنلبّي الصوت ونصير عبيدًا. هو صوت كاذب يبعدنا عن كلمة الخلق. التوجّه هو في أن أتأمّل في الله الخالق لكي أكتشف أنّني موضوع حبّ خاصّ من الله وهذه وجهة أسبوعنا التالي. عندي خيارَين في حياتي الروحيّة أو أن أنتظر أن تصبح الظروف مناسبة أو أن أختبر اختبار الكتاب المقدّس. هذا الاختبار هو تيّار يدعوني دائمًا إلى الحياة. يسوع يقول لي من يسمع كلامي ويصدّقه يشبه رجلًا بنى بيته على الصخر وأتت العواصف فبقي ثابتًا. المسيح لم يعد بأنه لن يكون عواصف بل وعد بأنّ البيت لن يقع. الخبرة الروحيّة هي أن أكتشف الحياة مهما كانت الظروف.
حديث رقم 3
الرياضة الروحيّة هي مدرسة صلاة. الصلاة موجودة فينا وهي ليست مجهودًا أو نشاطًا. ما هو هذا الشيء الموجود فيَّ؟ هو كلمة "كُن". الصلاة هي صعبة لأنّنا نبحث عنها في المكان غير المناسب (في نشاط أو عبادة) أو عندنا تصوّرات عن الله كإله يجب إرضاؤه. يُصبح صنمًا، نَعبُد صورة معيّنة. الصنم ممكن أن يكون صنم النجاح، أو المادّة ونشعر كأنّ لا قيمة لنا، أو صنم الإغواء وأدخل بالمقارنة… هذه الأصنام تكتم صلاتنا.
الله هو الخالق ويريد كلمة "كن" يقولها لكلِّ منّا، على عكس ما يفعله الناس إذ يريدوني أن أكون شيئًا. الله يريدني وهذه الكلمة هي بركة لي. البركة هي عندما يفرح الآخر بوجودي وكلّ مرّة أتوجه إلى الله يجب أن أعرف أنّه يفرح بوجودي. الله يريد لقائي أكثر من رغبتي في لقائه. الصلاة الساكنة فينا هي دعوة إلى الوجود. نرى هذه الدعوة في الناس الّذين نلتقيهم ولكن يجب الإنتباه أنّ بركة البشر لنا هي ناقصة. هذا الحبّ هو مشروط وأن أحبّ الله يعني أن أختبر أنّ حبّه غير مشروط. كيف تستطيع هذه الكلمة أن تغيّر حياتي؟
دور رياضة القدّيس إغناطيوس أن تكشف إرداة الله لحياتي. إرداة الله هي حياتي هو يريدني أن أكون. لا يريدني أن أكون راهبًا مثلاً بل أنا اخترت هذه الطريق ووجدت نفسي فيها وواجهت صعوبات. مشروع الله هو أن يفكّفك كل المشاريع الّتي يضعها البشر عليّ. إختبارنا لله يكشف لنا الأصنام الّتي تعيق حياتنا. بإمكاننا أن نكشفها ونغلبها. وهذا هدف الرياضة: أن أختبر الإله الحقيقيّ، وأن أكشف الأصنام.
لا تخافوا ألاّ تقوم الرياضة بعملها. كلّ من يتبع شروطها يحصد نتيجتها. أحيانًا أشعر أنّي لا أعرف أن أصلّي، كما اختبر بولس حين قال: نحن لا نحسن الصلاة كما يجب (روما 8: 26). أتشتّت وأشرد، أو لا أجد وقتًا مناسبًا، إلخ. لا تقلقوا: كلمة الله تنجح في عملها. أقوم بسخاء بما أستطيعه وإن واجهت قلقًا أم صعوبات أستشير المرافق.
العبادتان
في الكتاب المقدّس، التحذير من الأصنام يتردّد كثيرًا وخاصّة في الوصيّة الأولى: كلّ إله غير الله يَقتل والله وحده يعطي الحياة. الكتاب المقدّس يقول لنا أنّ هناك نوعين من العبادة: العبادة الوثنيّة والعبادة الحقيقيّة.
يقول لنا مزمور ٤٠: "ذبيحة وتقدمة لم تشأ لكنك فتحت أذني ولم تطلب محرقة وذبيحة خطيئة. حينئذ قلت: هاءنذا آت فقد كتب علي في طي الكتاب: هواي أن أعمل بمشيئتك يا ألله شريعتك في صميم أحشائي." (مز٤٠ \ 7-9). الله لا يريد التقدمات والذبائح ولم يرد ذلك. كلّ واجبات دينيّة هي هذه التقدمات والذبائح. كأنّنا نقول لله : أنت لست إله الواجبات، أنت تريد إصغاء وتريد أن تفتح أذنيّ. الربّ يكلّمني ويقول لي كُن. العبادة الحقيقية قائمة على السماع والّذي يسمع يقول هاءنذا. الله يريد هذه الكلمة وليس الواجبات.
الكتاب المقدّس يتكلَّم عنّي ويُخبر قصّتي. مشيئة الربّ هي فرحي، هو هواي. الله يرفض أن يكون إله الأمر الواقع ولهذا السبب يحتجب الله لأنّه يرفض أن يكون هذا الإله المفروض فرضًا. الإختبار الإلهي يجعلني فرحًا - وهذا الفرق بين العبادتين.
يقول المزمور ٥١: "فإنك لا تهوى الذبيحة وإذا قرّبت محرقة فلا ترتضي بها. إنّما الذبيحة لله روح منكسر، القلب المنكسر المنسحق لا تزدريه يا ألله." (مز ٥١ \ ١٦ – ١٧). وفي هوشع ٦ \ ٦: "إنّما أريد الطاعة لا الذبيحة، معرفة الله أكثر من المحرقات". الطاعة هي الأذنان المفتوحَتان، هو الإصغاء. يسوع يستعمل هذه الآية في العهد الجديد مرّتين، وفي كل! مرّة يشتكي أنّ الناس لا يفهمون معنى الآية. إله الكتاب المقدّس إله غير مفهوم، يعاني من أنّ لا أحد يفهمه، لأنّ أفكاره ليست كأفكار الناس.
مار بولس يقوم بمقارنة بين هاتين العبادتين: الّذي يخلّص هو الإيمان وليس الأعمال. الفرق الكبير بين العبادتين هو أنّ العبادة الصحيحة قائمة على الثقة وبينما الثانيّة قائمة على الحذر وهذا الحذر يمنعني أن أعيش مع الله وتصبح أعمالي "إتقّاءً لشرّه". علاقة الثقة لا تحمل هذه المسافة بيني وبين الله بل أعرف أنّ الله يريد حياتي أكثر ممّا أنا أريدها ولهذا نحتاج إلى أن نثق بالله.
ما هي إذًا العبادة الجديدة؟ هي حياتي كلّها، بدون انقسام. يقول المزمور 34: أبارك الربّ في كلّ حين. هذا عنوان رياضتنا. ما معنى أن أبارك الربّ؟ أقول نعم للّذي يقول لي نعم. أستقبل نفسي من الله. ليست عبادتي مقتصرة على أوقات الصلاة والأمور الروحيّة. بل هي أن أميّز مشيئة الله وأن أعمل بها في كلّ حين (راجع روما 12: 1-2). وما هي مشيئة الله؟ هي أنا، لا أفكار ولا عقائد ولا طقوس ولا شريعة ولا أوامر للتنفيذ، وإنّما حرّيّة قلبي من كلّ الأصنام. هي تفكيك المشاريع الّتي تعيق الحياة لأنّ الله هو "السيّد المحبّ للحياة" (حك 11: 26). "مجد الله هو الإنسان الحيّ" يقول القدّيس الشهيد إيريناوس (من آباء الكنيسة، القرن الثاني).
ما معنى أنّ حياتي كلّها هي عبادتي؟ معناها أن أصدّق أنّ كلّ إنسان قصّة مقدّسة، تستحقّ أن تٌروى، أن يٌصغى إليها. كلّ إنسان قصّة يكتبها الله بحرّيّتنا. الله يحرّرني لكي تصير قراراتي ومشيئته شيئًا واحدًا. هذا ما نقصده حين نقول إنّ الله حبّ. ما الحبّ؟ لبعضنا يأتي التعبير عن الحبّ بالمشاعر الدافئة، للبعض الآخر بحمل المسؤوليّة، للآخرين بالخدمة... ما يجمع هذا كلّه هو أنّ الحبّ بذل للذات: "ما من حبّ أعظم من حبّ من يبذل ذاته في سبيل الآخرين." (يو 15: 13). بذل الذات ليس أوّلاً الموت من أجل المحبوب، بل الحياة من أجله. ما دافعي للحياة؟ النجاح أم المال أم السيطرة؟ بل الدافع هو أن تروي حياتي قصّة إله مولع بالبشر. لهذا عند يسوع حبّ القريب هو أسمى عبادة.
قلب الإنسان هو الرهان الأعظم في الكتاب المقدّس
الموضوع الأساسيّ في الكتاب المقدّس هو قلب الإنسان. العبادة الصحيحة تجعل الإنسان مُصغيًا ومُنفتحًا على كلمة الله وتجعله رحومًا. سأعرض بعض الكلمات الأساسيّة في الكتاب المقدّس لكي نرى كيف تنظمّت هذه العبادة الحقيقيّة من خلال هذه الكلمات: الإيمان، والاختيار والعهد.
1- الإيمان:
يقول مار بولس أن الإنسان يخلص بالإيمان وليس بالأعمال. ما هو هذا الإيمان؟ المفتاح لرسائل مار بولس هو التمييز بين الإيمان والأعمال. كلّ الممارسات والواجبات الّتي أقوم بها كواجب تصبح كحجاب بيني وبين الله. الإيمان هو علاقة مبنيّة على الثقة. ولكيلا أضع دفاعًا بيني وبين الله: يجب أن أفتح المجال لله لكي يعمل.
ما المقصود في الإنجيل: "إيمانُكَ خلّصكَ"، "إيمانُكِ خلّصكِ"؟ أمضت النازفة ١٢ سنة من النزيف ولم تجد العلاج عند الأطبّاء. تسلّلت عند يسوع وها هو يقول لها: "إيمانُكِ خلّصكِ" بعد أن نالت الشفاء: نسمع يسوع يقول هذه الجملة أيضاً للمرأة الخاطئة الّتي غسلت رجلَيه بعد تخطّي أحد العقبات. هذه المرأة مستعدّة أن تواجه كلّ الأصوات الّتي تقول لها: لا يجب أن تكوني. راهنت على صوت يسوع ودخلت إلى البيت وراهنت على يسوع ثمَّ قال لها إيمانُكِ خلَّصكِ. نجد هذا الإيمان أيضاً في شفاء المخلّع وفي قصّة الكنعانيّة الّتي تبِعت يسوع وتخطّت عقبة الرفض وراهنت أنّ الّذي خلقها يحبّها، راهنت على البركة.
من هو إسرائيل؟ يعقوب يتصارع مع الرجل حتّى شروق الصباح. يباركه الرجل ويسمّيه إسرائيل لأنّه صارع الله والبشر وانتصر. رغبة يعقوب بأنّ ينال البركة هي الّتي قاومت هذا الرجل. فكان يقول له: "لن أنصرف حتّى تباركني". عندما يعطي الله كلمته لا يستردُّها فارغة، يُلْزِمُ نفسَهُ. ومن يأخذ كلمة الله على "مَحمَل الجد" يصبح وكأنّه "يلزم الله بأنّ يباركه". نحن نكون "إسرائيل" عندما تكون رغبتنا بالله. الإيمان هو رهان على الله. الله يريد أن يعطيني الحياة.
الإصغاء بثقة للكلمة هو رغبة تتخطّى العقبات ورهان على الله أنّه يريد أن يعطيني البركة.
2- العهد:
يعاهد الله الإنسان في الكتاب المقدّس ونرى ذلك بوضوح مع إبراهيم (المختار) في البدء ثمّ مع الشعب.
كلمة عهد هي أبعد من "الحلال والحرام" و"الممنوع والمرغوب". هي أنّ الله يعطي كلمته لمن يرغب أن يتلقّاها، والّذي يتلقّاها يحمل ثمارًا. عندما أعطي كلمتي، أقوم بالعهد. تكون الأمانة للعهد باحترام الكلمة وإعطاء كلمتي. الخيانة هي عدم احترام الكلمة واستغلالها. علاقة الله مع الشعب المختار هي ارتباط لا ينفصل.
3- الاختيار:
لماذا يختار الله المختارين؟ ولماذا يميّز؟
اختيار الله ليس عن استحقاق الإنسان أو الشعب. هو يختار إلى الوجود كلّ الناس ولكن ما الأمر الّذي حصل حتّى أصبح الله يتكلّم مع المختار؟ أغلق الإنسان بابه على البركة الإلهيّة. خلق الله العالم حسنٌ جدًا بعكس ما نراه اليوم. لكنّ كلمة الله هي مرفوضة في وسط البشر، ومن يقولها سيتعرّض للرفض. عندما يريد أن يختار أحد، يفعل معه عهد، فيصبح مصير الله هو مصير المختار إن كان في الكرامة أو في الإهانة. يختار الشخص الّذي يقول له: هاءنذا! (أشعيا ٦) لكي يوصل البركة للآخرين. إنه يقيم معه علاقة في سبيل الجميع. الله يعرض العهد لكنّ الإنسان يقبل أو لا. في تكوين ١٢: "وقال الله لأبرام: أترك أرضك وعشيرتك وبيت أهلك وامضي إلى الأرض الّتي أريك وأنا أكون معك وتكون بركةً ويتبارك بك كلّ عشائر الأرض". المختار يعاني من مصير "الكلمة" الّتي تجسّدت في آخر الأزمنة، سوف ينزل إلى عمق الارض لكي يقوم بعدها. الإنسان هو محظوظ لأنّه مختار ولكن سيف الألم سيجوز في قلبه.
نص المبدأ والأساس: طريقة القدّيس أغناطيوس في عرض العبادة الجديدة
ما يريد النص إيصاله هو أنّ الإنسان لم يخلق مِن أجل شيء (لا المادة أو المال) بل فقط من أجل أن يكون له علاقة مباشرة وتسبيح مع الله. يمكن أن نترجمها أنّه دُعي إلى الوجود لكي يقبل هذه الدعوة. العلاقة الأساسيّة مع الله هي مهمّة وهي محوريّة في حياتنا. إذاً الإنسان خُلِقَ لله وكلّ شيء هو ليساعد الإنسان. "الإنسان": من هو الإنسان؟ ما هي عظمته وما هي مأساته؟ بنظر إغناطيوس ليس الإنسان متطابقًا مع ظروفه ولا مع تاريخه أوّلاً، وإنّما هو متطابق أساسًا مع علاقته بخالقه. هو رغبة في الله وعطش إلى الله. لهذا كلّ إنسان قصّة مقدّسة تستحقّ الاحترام والتقدير والمساعدة على بلوغ قامته، على بلوغ دعوته. لكلّ إنسان دعوة شخصيّة خاصّة، اسم، وجه، يُظهر فيه الله الخالق كما يُظهر العلم الريح.
كلمة "نحمل" تعني أنّه هناك عمل. مُنحازين يعني غير متعلّقين: لا يجب أن نتعلّق بالأشياء من أجل ذاتها بل إنّ الأشياء هي طريق؛ الخليقة هي طريق إلى الـمـُعطي. لكي أرى المعطي في العطية يجب أن أحبّ الـمُعطي أكثر من العطيّة.
يجب دائمًا أن أفضّل الصحة على المرض وإلا لما اعتنينا بالمرضى، يجب أن أفضّل الغنى على الفقر وإلاّ لما اكترثتُ للفقير. يجب أن أفضّل طول العمر على قُصرِه احترامًا للحياة الّتي أعطانا إيّاها الله. ما يقصده مار اغناطيوس هنا هو أنّه مهما كانت ظروفي، تبقى العلاقة الأساسيّة هي مع الخالق. وعلى هذا النحو في حال كنت في المرض أستطيع أن أسبّح ربّنا وأخدمه وفي حال كنت في الصحة أفعل نفس الشيء. لا أنحاز للظروف أي لا أعتبر أنّه هناك ظروف تقرّبني من الله أو تبعّدني منه. الظروف الّتي أنا فيها هي الطريق. الله أعظم من الصحة ومن المرض، وعلاقتي به توصلني إلى تسبيحٍ ومجدٍ وشكرٍ أكبَر. مجد الله، بحسب القدّيس إيريناوس، هو الإنسان الحي، الّذي أختاره، هذا المجد قد يكلّفني أن أخسر الناس أو أن أفقد أموالي، ولكن لا تستطيع هذه الأموال أن تعطيني ما تعطيني إيّاه العلاقة مع الربّ.
هذا النص سيرافقنا هذا الأسبوع لكي نتأمّل ونفكّر فيه، وفي حال واجهنا التشنّجات تجاه هذا النص لنفكّر فيها وبالأسباب الممكنة وراءها. هذا النصّ ملّخص عن شهر الرياضات. يجب أن نفهمه على ضوء ما اختبرناه بالتأمّلات.
تمييز الأرواح:
التفسير:
المبدأ والأساس ينصحنا بأن لا نكون متعلّقين بالأشياء ولكن واقعنا هو عكس ذلك ونحن متعلّقين بكثير من الأشياء. "حياتنا فوضويّة" يقول القدّيس اغناطيوس، الفوضى ليست فقط عدم الترتيب، إنّما هي التعلّق بكثير من الأمور. ما يجعل حياتي مرتبّة هو أن يكون الله هو الأول في حياتي. أفضّل أن أزداد في العلاقة مع الله على التعلّق بالأشياء. تنظيم الحياة هو عندما تكون حياتي موجهّة أكثر فأكثر صوب تسبيح الله. وأكون في فوضى عندما أعيش العكس.
روح الله يدفعني في طريقي صوب الله أمّا روح المتهّم يهبّ في وجهي وهو العدوّ. الروح هي الأفكار والدفع الداخلي. يقول القدّيس اغناطيوس أنّ أفكارنا لها 3 مصادر: من طبيعتنا، من الروح القدس ومن العدوّ. أفكار العدوّ تخنُق كلمة الخلق وكلمة ربنا التي هي كلمة "كُن". عندما أمشي صوب تنظيم حياتي، يسهّل الروح القدس أموري ويدفعني. وفي المقابل هناك أفكار تكون كعقبات في وجهي مثل: "كيف ستعيش على هذا النحو؟ كيف ستستمرّ؟".
الإنسان الّذي ينظر إلى العدم ويمشي بدون أي اهتمام لله يعيش باليأس أو في الخطايا. روحُ الخالق هو في وجهه ينبّهه أمّا روح الشرير يدفَعُه ويساعدُه على أن يستمرّ في العيش بالخطايا.
الأشخاص الّذي يتابعون الرياضة الروحيّة ينظمّون حياتهم وهم يمشون صوبَ الخالق أو يغيّرون الاتجاه لكي يسيروا صوبه. الروح يساعدنا في صلاتنا ويعطينا الفرح والأفكار العميقة أو سعادة. أما روح العدو يأتي في عكس اتجاهنا، ويعطينا أفكار كاذبة تسبّب الانقباض والحزن. لاحقًا سوف نتعلّم كيف نتصرّف في حال الانبساط أو الانقباض وسنعرف لماذا يسمح الربّ بأن نمرّ بالانقباض.
حديث رقم 4
"أبارك الله في كلّ حين..." كلّ ما قلناه إلى الآن في الرياضة يتلخّص في هذه الكلمات. البركة هي اختبار القبول، هي نعم لوجودي. حين يباركني من يحبّني يقول نعم لوجودي، لأنّه يرغب في وجودي فيجعلني أرغب أنا أيضًا في وجودي. لا أعود أعاني حياتي بل أختارها، أريدها، مع كلّ إمكانيّات النموّ فيها، مع كلّ تاريخها بأنواره وظلاله، مع كلّ واقعها بوعوده وحدوده. أختبر أنّ حياتي قصّة مقدّسة، تروي الحبّ. الكتاب المقدّس يعرض أمامي إلهًا هو بركة مستمرّة. عند الناس القبول محدود، مجروح، عند الله البركة ثابتة. العلاقة بالله الّتي اسمها الإيمان تعطي الثبات. ولكن ما معنى "أنا أبارك الله"؟ أقول نعم لمن يقول لي نعم، أقول لمن يقول "كن، أريدك، أحبّك" أقول له "هاءنذا". أظهرت لكم أنّ كلمة "هاءنذا" هي العبادة الّتي يطلبها الله، لا الذبائح والتقدمات. لا عبادة "ساعة لقلبك وساعة لربّك" المبنيّة على تصوّر وثنيّ. العبادة الّتي يسمّيها يسوع "بالروح والحقّ" (يوحنّا 4: 24) هي أن نطلب مشيئة الله ونميّزها "في كلّ حين"، وما هي مشيئة الله؟ هي أن أكون، أن أحيا. "مجد الله هو الإنسان الحيّ" (إيريناوس)، مشيئة الله أن أكون حرًّا من الأصنام الّتي تقتل فيّ الحياة.
الحرّيّة هي القدرة على الحبّ. هل أنا قادر على الحبّ؟ يقول لي أحد أصدقائي أنّنا لا نحبّ حقيقة، بل كلّ ما نقوم به هو بمقابل... هو تجارة. ليس فينا بذل الذات حقًّا. هو مقنع في رأيه: أصنع الخير في سبيل المكافأة، أطالب بالحقّ لأضمن حقوقي، أقدّم نفسي للموت لأنّي أكره حياتي، أو لأنّي موهوم بحياة أبديّة، أو ليذكرني الناس... أبحث يائسًا عن أن أكون محبوبًا فأضحّي وأكون لطيفًا وأخدم... وإلاّ أستخدم القوّة لأفرض نفسي وهيبتي، ولألبّي أشواقي، وكثيرًا ما يتحوّل الإنسان من الوداعة إلى العنف حين ينتقل من الضعف إلى القوّة... مقنع صديقي ومقلق لأنّي أرى في نفسي الوداعة والعنف معًا، أرى أنّي لا أثبت على الخير ولا على الحبّ. هل معه حقّ؟ هذا السؤال موجود في قصّة أيّوب: "أمجّانًا يتّقي أيّوب الله؟" يقول الشيطان. أليس أنّه لو فقد ما يعتبره بركات حياته سوف ينقلب ضدّ الله؟ هذا الرهان موضوع على كلّ منّا: هل أنا قادر على المجّانيّة في الحبّ؟ ليس الجواب نعم أو لا، بل كلّ حياتي هي قصّة الانتقال من اللعنة إلى البركة. هل أجرؤ وأراهن على أنّ الحبّ ممكن؟
يدعوني الكتاب المقدّس إلى الرهان على الله، لأنّ الله يجرؤ على الرهان عليّ. حياتي قصّة هذا الرهان المتبادل، فهي قصّة مقدّسة. كلّ إنسان هو أهمّ من السماء والأرض معًا لأنّه بقراراته يحدّد هل الحبّ ممكن أم لا. يقول الكتاب إنّ الإنسان لا يحبّ كما يجب لأنّه لا يراهن على الله. يطلب الضمانات. لا يصدّق. يدخل في الحذر. يصير عبدًا لأصنام هي من صنع يديه. في المرحلة القادمة من الرياضة سنحاول أن نكشف هذه الأصنام، وحين نكشفها ننتصر عليها. في رياضتنا سنميّز بوضوح بين صوت الخالق الّذي يقول "كن" وبين الأصوات الكاذبة الّتي تريد أن تمنعني عن أن أجيب "هاءنذا". تشغلني بأمور كثيرة، أو تخيفني بأمور كثيرة، أو تلهيني عن حزني بأمور كثيرة. ولكّني لا ألبث أن أعود إلى الحزن لأنّي لم أواجهه.
في نصّ القدّيس أغناطيوس الّذي قرأناه المرّة الماضية رأينا مختصرًا مفيدًا للعبادة بالروح والحقّ: للإنسان علاقة أساسيّة هي علاقته بخالقه، أي في قبوله من هو، في قوله "هاءنذا" لمن يقول له "كن". إن كانت هذه العلاقة متينة، كانت علاقات الإنسان كلّها منتظمة، محرّرة، يعرف الإنسان كيف يميّز بين الأساسيّ والثانويّ، بين ما يستطيع تغييره وما يستفيد من قبوله كما هو، بين ما يستحقّ الصراع من أجله وما يقبله كما هو بحبّ وشكران. وإن كانت العلاقة الأساسيّة غير متينة، أي إن ظنّ الإنسان أنّ سعادته هي في ظروفه أو في المخلوقات فدخل في تعلّقات تجعله غير حرّ، كانت علاقاته كلّها غير منظّمة وغير حرّة، فيضيع تمييزه ويغرق إمّا في الحزن والغضب واللوم والذنب وإمّا في إجهاد النفس لتحقيق أهداف لا تشبعه. ولكن هذه العلاقة هي مسيرة، هي قصّة. كلّ إنسان هو قصّة مقدّسة.
ما معنى مقدّسة؟ معناها أنّ الله القدّوس حاضر فيها. كلمة قدّوس تخيفنا. القدّوس هو الّذي يفرض هيبته. القدّوس لا مساومة معه. الله واحد مع نفسه، ليس مثلي متقلّبًا، ولا مثلي مساومًا على الحقّ وعلى العدل وعلى الخير. القدّوس هو الحرّ، واحد مع رغبته، غير متناقض. أنا متناقض، أريد شيئًا ونقيضه معًا. كما قال صديقي: أطلب الحقّ ما دمت ضعيفًا وأنسى الحقّ حين أكون قويًّا. أقول إنّي أريد العدالة ولكن حين يُقال لي إنّ العدالة تهدّد راحتي أتناساها. أقول إنّي أحبّ الآخرين، لكنّ الغيرة والأنانيّة تعميانني أحيانًا كثيرة. أريد أن يكون ظاهري وباطني متّفقين، ولكنّي في سرّي أخبّئ غضبًا كثيرًا وغيرة كثيرة وشهوات كثيرة. القدّوس هو الّذي لا رياء فيه: باطنه مثل ظاهره وكلماته تتّفق مع أفعاله. حياتي قصّة مقدّسة يعني أنّ لها قيمة في عيني القدّوس. حياتي مقدّسة يعني أنّه لا يجوز الاستخفاف بها، لا من قبل الآخرين ولا من قبلي أنا. قصّتي تستحقّ أن تٌروى لأنّها تخبر عن الله. حياتي مقدّسة يعني أنّها ليست ملكي، ليست على "قياسي". لكي أقرأ حياتي أحتاج إلى معرفة الله. حياتي هي استجابة لله، هي جواب على نداء. هذا النداء أعظم من السماء والأرض.
* * *
كان الهدف من الأسابيع الماضية تغيير المفاهيم وتنظيم أوقات الرياضة. لنتذكّر السخاء الّذي التزمنا به. هذا يشجّعنا كي لا نفقد العزيمة في حال لا نرى النتائج في الحال إذ هي كالزرع الّذي لا نراه ينمو. قال الربّ على لسان أشعيا: "كلمتي لا ترجع إليَّ فارغة". النصيحة للرياضة هي "من يثبت إلى المنتهى يخلُص".
لدينا حذر من الله لأنّنا نعتبره إلهًا وثنيًّا؛ نقدّم له عبادة "تسكّته"، نظنّ أنّنا نرضيه بالذبائح. الكتاب المقدّس يكلّمنا عن عبادة الثقة. الحذر موجود في قلوبنا جميعًا، من هنا يتحوّل الحذر إلى خطيئة وابتعاد عن الله. ما سنفعله الآن هو أن نفتّش على هذا الحذر الساكن فينا ويجب أن نعرف أنّنا لا نستطيع أن نتخلّى عنه بقوّة الإرادة، بل بمعرفة الله.
الكتاب المقدّس يقول لنا إنّ سبب الخطيئة هو الحذر الموجود في قلوبنا. الهدف في هذه المرحلة هو أن نتمكّن من فهم الحذر الموجود ونواجهه بالحكمة لا بالإرادة. في الفترة الآتية، سننظر إلى الظلام والقساوة الّتي في قلوبنا. فالكنيسة تعلّمنا أنّه لا يوجد طريقة للسير مع الربّ إلاّ عندما أرى خطيئتي وأنا متمسّك بيد مخلّصي. لأنّه إن أفلتُّ يدي ونظرت لوحدي إلى خطيئتي، أقع في خطر اليأس. وإن لم أنظر إلى خطيئتي أبقى في الكذب.
علاقة الثقة ليست سهلة. تتطلّب مثلاً من إبراهيم أن يترك أرضه وعشيرته بدون ضمان سوى الكلمة الّتي سمعها. رعب حياتنا هو أن نُنسى. هذا الرعب يجعلنا نسعى أن نكون مهمّين جدًا ولا غنى عنّا. ومن هنا يدخل الخوف والغيرة والعنف تجاه الآخرين ومن هنا قساوة القلب. هل نقدر أن نخرج من دوّامة العنف؟ هل نقدر على الحبّ؟
ليس أيّ إنسان شرّيرًا بطبيعته. ولكنّ الكتاب حين يذكر الصوت الّذي يدعو الإنسان من العدم إلى الوجود، الصوت الخالق الّذي يسمّيه "روح الحقّ المعزّي" لأنّه يقول الحقّ ويعطي الحياة لأنّه يحبّ ما يخلقه، يذكر أيضًا صوتًا آخر، يسمّيه المتّهم (الشيطان) الّذي يدعو إلى كره الوجود ويسبّب فينا الحنين إلى العدم. ما أصعب أن يحبّ الإنسان نفسه!! نحنّ إلى العدم لأنّنا لا نطيق ثقل الوجود، لا نطيق قلق الوجود. أن أوجد يعني أن أقول "أنا"، أن أكون مسؤولاً عن كلمتي. أن أقول أنا يعني أن أرغب في الوجود، ولكن هذه الرغبة الّتي بطبيعتها واحدة مع رغبة الله، بما أنّها غير مكتملة، هي معرّضة للتقلّب. هي ليست مثل القدّوس بعد، هي معرّضة للحذر. صوت الموت صوت كاذب يسعى إلى أن ننسى الصوت الخالق. يقول فيه يسوع: "كذّاب وأبو الكذب". على نقيض روح الحقّ المعزّي، هو روح الكذب المتّهم. الأرواح هي أصوات، "موجة" لو أحببتم التشبيه. حين نميّز في داخلنا موجة الخالق وموجة الكذّاب نعرف كيف نتعامل مع كلّ منهما. من أهداف هذه الرياضة تعلّم هذا التمييز. ولكنّنا لن نتعلّم تمييز الأرواح إذا لم نتأمّل. من الآن فصاعدًا كلماتي لن يفهمها إلاّ من يقوم بالتأمّلات. يساعدنا الكتاب المقدّس على هذا التمييز. سأتوقّف اليوم على عمل الروح المتّهم كما يصوّره الكتاب. لن ننسى في قراءتنا أنّ هذا الروح هو صوت، أو موجة. لن نقع في فخّ التصوّرات الشعبيّة حول شياطين تدخل وتخرج ولها قرون. يكفينا أن نعرف أنّ الشرّير صوت يعمل على قلق الوجود فينا ويدفعنا إلى الحنين إلى العدم.
أيّ حنين إلى العدم؟ نتصوّر العدم فقط بشكل الغياب، اللاشيء. ولكنّ العدم قد يأخذ أشكالاً مختلفة. كلّ هروب من كلمة أنا، هاءنذا، هو عدم. كلّ غرق في التفاهة، في الإدمانات، في التناسي هو عدم. "حطّ راسك بين الروس وقول يا قطّاع الروس" هذا عدم. "إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب" هذا عدم. "كلّ الناس هيك بتعمل" هذا عدم. "شو وقّفت عليّ؟" هذا عدم. ولكن أيضًا قساوة القلب هي عدم، لأنّها تحوّل القلب الّذي من لحم إلى قلب من حجر. ليس من حياة في الحجر. عدم الواقعيّة عدم: الأحلام والأوهام وكلّ أشكال الهروب من النفس عدم. سنرى الآن كيف يروي الكتاب المقدّس هذا الهروب ودور الصوت الكاذب.
في الفصل الثالث من سفر التكوين يظهر هذا الصوت على الساحة. يظهر بشكل حيّة لأنّه يتسلّل بشكل غير مستقيم ولأنّه يترك سمومًا. ماذا يقول هذا الصوت؟ يقول للإنسان: الله لم يهبك كلّ شيء. يحبّك ولكن إلى حدّ ما. في الواقع هو يغار منك لأنّ بإمكانك أن تكون مثله، أن تصير "مثل الآلهة". يعد هذا الصوت بما لا يمكنه تحقيقه. لا يمكنه أن يحقّق في الإنسان شيئًا ولكنّه يعده: تصير مثل الآلهة. مثل الآلهة، يعني أنّ ما أنت عليه ليس جيّدًا. يعلّم الإنسان أن يكره إنسانيّته الواقعيّة وأن يحلم بألوهة وهميّة. يصوّر الله خائفًا على نفسه من خليقته. للمثال، يشبه ذلك إنسانًا يغار من حبيبه على هديّة نالها منه أصلاً. بدل أن تكون الهديّة علامة حبّ تصير علامة تنافس. بدل أن تكون العلاقة علاقة بين أشخاص متميّزين ندخل في المقارنة. نخسر هويّتنا من أجل كسب هويّة الآخر. المقارنة هي من أشكال العدم لأنّها تدفع الكلّ أن يكونوا شيئًا واحدًا. يعلّم المتّهم الإنسان أن يلوم الله على أنّه خلقه إنسانًا فقط، مثل الرجل صاحب الوزنة الواحدة في مثل الوزنات يحتقر ما ناله حتّى إنّه يدفنه في التراب: عدم. وبعد أن يدخل الحذر قلب الإنسان، لا يعود باستطاعته أن يقول "هاءنذا". حين ينادي الله آدم قائلاً: آدم أين أنت؟ لا يلقى ردّ "هاءنذا". الصوت الكاذب في بداية القصّة يصير هنا الصوت المتّهم: "ماذا فعلتَ؟ عليك أن تهرب، أن تختبئ". وآدم يهرب! هروب آدم هذا طبعنا في عمق كياننا. نهرب من الكلمة الخالقة ونحنّ إلى العدم. نتأرجح بين لوم الذات ولوم الله ولوم الآخرين، وما من يقول "هاءنذا". كلّ قصّة الكتاب، كلّ تاريخ البشر هي قصّة إله يقول "أين أنت؟" وإنسان لا يجيب، أو يجيب بالهروب، أو بالحضور، بهاءنذا. أترون كيف أنّ حياتنا قصّة مقدّسة؟ فيها إمكانيّة "هاءنذا" كما فيها إمكانيّة الهروب.
ركّزتُ هنا على صوت الكذّاب وعلى هروب آدم. في الأسبوع المقبل سأتكلّم عن تاريخ الخطيئة الّذي ينتج عن الإصغاء إلى هذا الصوت. تأمّلات الأسبوع ستحضّرنا لهذا الحديث.
الأسابيع الآتية هي مهمّة جدًا ولذلك يجب أن نلتزم إلى أقصى حد بأوقات التأمّلات. والمهم أيضًا أن نستفيد من المرافقة الروحيّة إذ هي أساسيّة. اللقاء الشخصي هو الّذي سيكشف الأمور. فالنعمة للأسبوع الآتي هي: أن أعرف قلبي وحاجته إلى الشفاء وأن أعرف خطيئتي وأندم عليها.
حديث رقم 5
تنبيه: حين نتكلّم عن تمييز الأرواح، والأفضل تمييز الأصوات، يظنّ البعض أنّ الأرواح هي مثل المادّة، تدخل وتخرج، وتلوّث وتطهّر... ويلومنا الآخرون أنّنا ننسب خطيئتنا إلى تأثيرات الشيطان لنقلّل من مسؤوليّتنا وخوفًا من حرّيّتنا... كلّ هذا مبنيّ على تصوّرات أسطوريّة. حين يتّهم الأوّلون الآخرين بأنّهم لا يؤمنون بالشيطان، يظلمونهم، وحين يتّهم الآخرون الأوّلين بأنّهم يهربون من مسؤوليّتهم حين يتكلّمون عن الشيطان يظلمونهم كذلك. ما يسمّيه الكتاب المقدّس "الشيطان" هو صوت كاذب يقود إلى العدم. أحيانًا يظهر الصوت بدون أن يتكلّم الكتاب عن مصدره، كما في حالة الشعب العبرانيّ الّذي خرج من مصر أرض العبوديّة، ولكنّه إذ كان في البرّيّة اشتاق إلى راحة مصر، فكان فيه حنين إلى العدم، إلى راحة العبوديّة. هذا المنطق الّذي يقول: "كان خيرًا لي لو لم أخرج من بطن أمّي"، هو صوت كاذب، ينسيني وعود الله ويضع حذرًا بيني وبينه. حين ألعن وجودي، ألعن سرًّا الصوت الّذي خلقني. الراحة لا تعني دائمًا السعادة. يتّهم البعض الوحي اليهوديّ المسيحيّ أنّه في وعد العودة إلى الجنّة نوع من حنين إلى الرحم، حيث الراحة والأمان... والعدم. هؤلاء لم يفهموا أنّ قصّة الخروج من مصر أهمّ من قصّة الخروج من الفردوس في الكتاب المقدّس. لا نتكلّم عن الأرواح لننفي مسؤوليّتنا عن أعمالنا، ولكن لنفهم... كلّ تصرّف وكلّ سلوك يرتكز على قناعة داخليّة. حتّى حين نقوم بالشرّ الّذي لا نريده ونهمل الخير مع أنّنا نريده، هذا التناقض ناتج عن تناقضات في القناعات الباطنة. إذا لم نفهم أين الداء، كيف نصف الدواء؟ خطايانا مرتكزة على قناعات كاذبة ترسّبت في باطننا. إن لم نكشف الصوت الداخليّ الّذي يدعونا إلى العدم، وكيف يدخلنا في تناقض مع ذاتنا، ستبقى حياتنا الروحيّة على مستوى الإرادة: نجهد أنفسنا لنتبنّى شرائع خارجيّة، فإمّا لا ننجح فنيأس مثل "الزواني والعشّارين" في الإنجيل، وإمّا ننجح فنصير ضدّ الله من حيث لا ندري مثل الفرّيسيّين ومنهم بولس الّذي بعد اهتدائه صار مسيحيًّا. الحياة الروحيّة والشفاء الحقيقيّ هما في معرفة الله كما كشفه لنا المسيح، وهذه المعرفة تصطدم برفضنا، وعلينا أن نفهم قليلاً ما مصدر قساوة قلوبنا. لهذا أتكلّم على تمييز الأرواح، ولهذا يصف الكتاب عمل الصوت الكاذب الّذي لا يقدر أن يجبرنا على الخطيئة (مسؤوليّتنا لا تنتفي) ولكنّه يبلبل تواصلنا مع الصوت المحيي.
تذكير وتعميق: في لقائنا السابق ذكرتُ خوفنا الأعمق، وهو أن نُنسى، أن نوضع جانبًا، ألاّ يُحسب لنا حساب، أن نختبر أنفسنا على أنّنا مرذولين. يقول أحد المتخصّصين في العلاقات الزوجيّة أنّ رغبتنا الأكبر ليست أن نكون محبوبين وحسب، بل أن نكون "مختارين"، مفضّلين. في نظري ما من فرق بين الإثنين، ولكن من المهمّ أن نسمع هذا الكلام: ما الحبّ؟ ما معنى أنا محبوب؟ معناه أنّي لا أُنسى، وأنّي لا مثيل لي في عيني من يحبّني. نقول بسهولة: أنا أحبّ (أو أريد أن أحبّ) كلّ الناس... الله لا يحبّ كلّ الناس، وإنّما يحبّ كلّ إنسان. كتب شسترتون عن تربية القصور والكنائس: "حيث تعلّمت أن أحبّ كلّ الناس، وأن أكره جاري". كيف يحبّ الله كلّ إنسان؟ كيف يفضّل كلّ إنسان؟ عن طريق إخراجه من المقارنات. لو أحبّني لأجل شيء ما، أخاف أن أفقد الشيء، أو أن يكون بجانبي من له من هذا الشيء أكثر منّي. هذا القلق هو الّذي يمنعنا عن تصديق الحبّ. ولكن إن أحبّني الله لا لشيء، كيف يكون يحبّني أنا؟ إن أحبّني لأنّه الحبّ، ألا يكون يحبّ ذاته من خلالي؟ هل أنا قابل للاستبدال؟ لو كان الله يحبّني لأنّه هو الحبّ فقط، لصار إلهًا سعيدًا في ذاته، متغاضيًا عن حالتي، غير مهتمًّا لي. لكان إلهًا لا يكترث لمن أنا. يرينا الكتاب المقدّس إلهًا يغضب! غضب الله دليل على أنّه مجروح. الّذي يحبّ يصير معرَّضًا للخيانة، للجرح، للخسارة. لولا لغة الغضب في الكتاب لما كان حبّ الله صادقًا. الله يحبّني لأجل ما يمكنني أن أكون، إن استقبلتُ حبّه. يضع نفسه "بالدقّ"، على المحكّ. صليب يسوع يكشف لنا هذا. بالطبع كلامي هو تصوير بشريّ، فلا أحد يمكنه أن يصف الحالة الإلهيّة، ولكن بما أنّنا نقع دائمًا في تصوّر بشريّ، يعطينا الكتاب التصوّر البشريّ الّذي يبنينا. "القارئ يكبر، والكتاب يكبر معه" (القدّيس البابا غريغوريوس الكبير).
أعود إلى صوت الكاذب. في الفصل الثالث من سفر التكوين يظهر هذا الصوت على الساحة. يظهر بشكل حيّة لأنّه يتسلّل بشكل غير مستقيم ولأنّه يترك سمومًا. ماذا يقول هذا الصوت؟ يقول للإنسان: الله لم يهبك كلّ شيء. يحبّك ولكن إلى حدّ ما. في الواقع هو يغار منك لأنّ بإمكانك أن تكون مثله، أن تصير "مثل الآلهة". يعد هذا الصوت بما لا يمكنه تحقيقه. لا يمكنه أن يحقّق في الإنسان شيئًا ولكنّه يعده: تصير مثل الآلهة. مثل الآلهة، يعني أنّ ما أنت عليه ليس جيّدًا. يعلّم الإنسان أن يكره إنسانيّته الواقعيّة وأن يحلم بألوهة وهميّة. يصوّر الله خائفًا على نفسه من خليقته. للمثال، يشبه ذلك إنسانًا يغار من حبيبه على هديّة نالها منه أصلاً. بدل أن تكون الهديّة علامة حبّ تصير علامة تنافس. بدل أن تكون العلاقة علاقة بين أشخاص متميّزين ندخل في المقارنة. نخسر هويّتنا من أجل كسب هويّة الآخر. المقارنة هي من أشكال العدم لأنّها تدفع الكلّ أن يكونوا شيئًا واحدًا. يعلّم المتّهم الإنسان أن يلوم الله على أنّه خلقه إنسانًا فقط، مثل الرجل صاحب الوزنة الواحدة في مثل الوزنات يحتقر ما ناله حتّى إنّه يدفنه في التراب: عدم. وبعد أن يدخل الحذر قلب الإنسان، لا يعود باستطاعته أن يقول "هاءنذا". حين ينادي الله آدم قائلاً: آدم أين أنت؟ لا يلقى ردّ "هاءنذا". الصوت الكاذب في بداية القصّة يصير هنا الصوت المتّهم: "ماذا فعلتَ؟ عليك أن تهرب، أن تختبئ". وآدم يهرب! هروب آدم هذا طبعنا في عمق كياننا. نهرب من الكلمة الخالقة ونحنّ إلى العدم. نتأرجح بين لوم الذات ولوم الله ولوم الآخرين، وما من يقول "هاءنذا". كلّ قصّة الكتاب، كلّ تاريخ البشر هي قصّة إله يقول "أين أنت؟" وإنسان لا يجيب، أو يجيب بالهروب، أو بالحضور، بهاءنذا. أترون كيف أنّ حياتنا قصّة مقدّسة؟ فيها إمكانيّة "هاءنذا" كما فيها إمكانيّة الهروب.
ركّزتُ إلى الآن على صوت الكذّاب وعلى هروب آدم. سأتكلّم الآن عن تاريخ الخطيئة الّذي ينتج عن الإصغاء إلى هذا الصوت. أبدأ بقصّة قاين وهابيل، ثمّ أذهب إلى قصّة داود وبتشابع.
قاين وهابيل: قصّة الأخوّة المجروحة. قاين يشعر بالظلم، ولكنّه لا يقبل غضبه. لا ينظر إلى الله لكي يشفى من المقارنة. يقسّي قلبه فيحوّل أخاه إلى فريسة. الغضب يجعلنا أشباه الله: الله يغضب من أجلنا. يغضب من أجل الّذين خلقهم. ولكنّ غضبه حوار: "ارفع رأسك". يغضب من أجل هابيل، ويغضب من أجل قاين. غضبه يحمي قاين من الانتقام. كيف سيبني الحقّ بعد أن قاين قتل هابيل؟ وحده هابيل له الحقّ أن يغفر لقاين. يسوع يصير هابيل من أجل أن يغفر لقاين بدون أن يهدر هابيل. يعيد لكلّ منهما مكانته غير القابلة للمقارنة. يمكننا أن نقرأ مثل الابن الشاطر على ضوء هذه القصّة نفسها: كيف يعيد الأب لكلّ من ابنيه مكانته الخاصّة بدون أن يهدر الآخر؟
داود وبتشابع: كيف عملت الخطيئة في هذه القصّة؟ كيف تصير نزهة على الشرفة سببًا لموت رجل وطفل؟ ليست الشهوة خطيئة. ليست العلّة في شعور خلقه الله، وإنّما في فكرة السيطرة: لمّ يا داود تعيش الحرمان؟ ألستَ الملك، صورة الله؟ ألستَ مثل الله؟ فكرة الهيمنة الّتي نشأت في العلاقة بين الرجل والمرأة بسبب الخطيئة هي الّتي جعلت الشهوة خطيئة. لا نقاوم الخطيئة بقتل الشهوة، فهي حبّ، وإنّما بتمييز الأفكار: هل أقبل إنسانيّتي؟ هل أقبل العلاقة السليمة؟ العلاقة السليمة يسمّيها الكتاب: العدالة. ليست العدالة عدم تمييز بين الناس، وإلاّ عدنا إلى المقارنة. العدالة هي العلاقة بدون هيمنة. قبول الإنسانيّة. لهذا يخبر ناتان النبيّ داود قصّة الرجل الغنيّ الّذي سرق نعجة الفقير، فصاح داود: "هذا الرجل يستحقّ الموت" ليسمع النبيّ يقول له: "أنت هو الرجل". (2صم 12).
***
المناجاة أمام المصلوب: أتخيّل أنّي أمام المصلوب، وأسأله ما الّذي أتى به من السماء إلى واقعي ليموت مصلوبًا؟ إلى أيّ مدى هو مستعدّ أن يذهب من أجل الصداقة؟ وأسأل نفسي كيف أتجاوب مع حبّه هذا؟ ماذا فعلتُ لأجله؟ ماذا أفعل لأجله؟ ماذا عليّ أن أفعل لأجله؟ وأخاطبه مثل صديق لصديقه.
المناجاة الثلاثيّة: أتوجه إلى مريم وأطلب مِنها أن تصلّي إلى ابنها ليعطيني النعمة الّتي أطلبها. ثمّ أتوجّه إلى يسوع وأطلب منه أن يشفع لي عند الآب ويعطيني هذه النعمة. ثمَّ أتوجه إلى الآب وأطلب الشيء نفسه. وأختم كلّ مِن هذه المناجيات بالصلاة (السلام عليكِ – صلاة إلى يسوع – الأبانا).
حديث رقم 6
نحن في مرحلة مهمّة من الرياضة، التي فيها نختبر أنّ قلبنا بحاجة إلى الشفاء. هذا الاختبار هو نتيجة لقائنا مع الله. كيف نعرف أنّنا لا نحبّ؟ عندما نلتقي بالّذي يحبّ! وكذلك كلّ ما ابتعد الإنسان عن الله لا يعرف أنّه خاطئ. سرّ المعصية لا يُقاوم بقوّة الإرادة بل بالحكمة والمعرفة، معرفة الحب.
تعليم صغير حول سرّ المعصية
إرميا 17\14: "اشفني يا ربّ فأُشفى، خلّصني فأُخلَّص. لأنَّك أنت تسبيحتي"
إرميا نفسه قال أيضًا: "القلب أخدع كلِّ شيء وأخبثه، فمن يعرفه؟" (إرميا 17 \ 9).
قلب الإنسان يخدعه ولكن " اشفني يا ربّ فأُشفى، خلّصني فأُخلَّص. لأنَّك أنت تسبيحتي". الرياضة ليست لجلد الذات عندما نتأمّل في الخطيئة. الّذي يتكلّم على الخطيئة بكلام يذنّب ويحبس الإنسان، لم يعرف بعد الخبر السَّار. أمّا نحن فبدأنا الرياضة بالخبر السّار، بالثقة. الّذي خلقنا، خلقنا لكي نكون، خلقنا للحياة وللسعادة. فإذا تأمّلنا بسرّ المعصية فليس لكي نتألّم بل لكي نشفى. الروح القدس يقودنا إلى معرفة الخطيئة وخبث القلب لكي يكشف لنا عن المُخلِّص. عنوان هذا النهار: "لي مخلِّص". أنا لسُت متروكًا. ولأنّني أعرف هذا الشيء، عليّ أن أدخل بقوّة وأفهم سرّ المعصية من الداخل وكيف تعمل فينا لكيلا أقع بضحيَّته.
7 أنوار عن الخطيئة
1- "ملعونةٌ الأرض بسببكَ"، كلمات الله لآدم وكأنّه يقول لنا أنّ الواقع الخارجيّ للعالم يعكس حالة قلوبنا. كما كانت كلمات ناتان لداوود "أنت هو الرجل". وهكذا نحن، نحن المعنيّون. الخطأ الخارجيّ يعكس حالة مِن قلبي. القدّيس أغوسطينوس: "يقولون إنَّ الأزمنة رديئة، نحن الأزمنة".
2- "الخطيئة تشوّه الإنسانيّة". الخطيئة ليست بريئة وهي ليست ممنوعًا. نحن نخلُط بين الخطيئة وبين الأمور الممنوعة. الأمور الممنوعة هي أمور اجتماعية يمنعها المجتمع لأسباب أمنيّة. الخطيئة هي ما يشوّه الإنسانيّة، ما يجعلني وحشًا. مثل قصّة قايين وهابيل. "الخطيئة رابضة"، جاهزة لتنقضّ. الخطيئة، الرابضة كالحيوان، حوّلت قايين إلى حيوان مفترس، أمّا أخوه هابيل أصبح كالحيوان للذبح. قايين رفع عن هابيل حِرمة لا تقتل وحوّله إلى حيوان وقتله. الإنسانيّة مشوَّهة بسبب الخطيئة. الّذين يعبدون الأصنام يصبحون مشوَّهين مثلها، ذهب دون حياة (مز 115). الخطيئة تشوّه وكلّ تخفيف لهذا الشيء هو كذب. الخطيئة ليست الممنوع بل هي الّذي يشوّه ويقتل إنسانيّتي. الخطيئة تشوّه أيضًا صورة الله بنظرنا. عندها يدخل الحذر بيننا وبين الله ويبدو هو كالمنتقم الّذي يكره ويغار منّا. وكلّ هذا تشويه. القدّيس غريغوريوس النيصيّ يخبرنا أنّ طرد آدم من الجنّة لم يكن عقابًا بل علاجًا. لو بقي في الجنّة من دون الثقة بينه وبين الله كانت الجنّة نار. وكان يجب أن يطرد من الجنّة ليستعيد الثقة. خارج الجنّة يوجد الموت ولكن هذا الموت يموّت الخطيئة أمّا الإنسان فهو للحياة.
3- "اختبارنا للخطيئة مزدوج". في الخطيئة نحن في الوقت نفسه ضحيّة ومُشاركين بالذنب. نحن ضحيّة، أتينا إلى عالم مطبوع بالخطيئة، محبوبين من أناس لا يعرفوا كيف يحبّون لأنّهم هم أيضًا محبوبين من أناس لا يعرفون أن يحبّوا. نحن في تاريخ مطبوع بالخطيئة وبالتالي نحن لدرجة كبيرة ضحايا. وفي نفس الوقت أنا مُشارك بالذنب. أنا عندي مسؤوليّة، أنا كبّرت الخطيئة الّتي أذتني وكأنّني أغذّي الوحش الّذي يَنْهَش فيَّ. أنا في نفس الوقت مظلوم ومُشارك. وإذا اعتقدت أنّني مظلوم فقط، لا أفهم معنى الخطيئة وما يبقى هو الشعور بالظلم الّذي بدوره يوصلّني إلى اللوم، لوم الآخرين. لا أتحمّل مسؤوليّة حياتي لأنّي مظلوم وضحيّة. أمّا إذا فعلت العكس وظننت فقط أنني مسؤول. أدخل في عقدة الذنب. الشعور في الذنب قتوليّ. الشعور بالذنب يحبسني في نظرة لذاتي أمّا الشعور بالخطيئة فهو اكتشاف لحبّ الله المجروح. هناك فرق كبير بين أن أشعر بأنّني مذنب تجاه مثال أعلى وضعته لنفسي، تجاه صورة عن الكمال أو أنّني مذنب إلى حبّ مجروح. الشعور بالخطيئة هو غير الشعور بالذنب. الشعور بالخطيئة فيه رجاء لأنّه مبني على الحبّ. الشعور بالذنب مُرّ بينما الشعور بالخطيئة لطيف لأنّه مع العتاب هناك تعزية ورجاء. يجب الانتباه لأنّنا نحبس أنفُسَنا في أحد الشعورين بين الظلم والذنب: نذهب إلى الظلم ثمّ إلى الذنب. هذه حالة البشريّة كلّها. علينا أن نعرف عن الخطيئة لكي نخرج من الظلم والذنب. اختبارنا للخطيئة يجعلنا أن نُدرك أنّ خلاصنا لا يُمكن أن يكون منّا لوحدنا، نحن بحاجة لمُخلِّص. الّذي يخلّصني هو شخص أمكَنَه أن يُحِبَّني مِثلما أنا. هناك مخلِّص موجود اسمه يسوع المسيح. ولأنّه عندي مُخلِّص أعرف أنّني لست الضحيّة فقط ولا المذنب فقط بل أنا تخطيّت الإثنين، أنا أستطيع أن أكون شريكًا لمَخلِّصي.
4- الناس لديهم ميل أو لتعظيم الخطيئة لدرجة أنّها تُدخّلنا باليأس أو بالعكس تُتَفِّه الخطيئة وتخفّف من قيمتها بحجّة أنّ رحمة الله كبيرة. لا يُمكننا أن نُتفِّه الخطيئة ونُنكر أنّ لديها ضحايا، بأنها قتلت ابن الله، وبأنّها قتلت الإنسانيّة وتُعرِّضنا للهلاك الأبديّ. لا نستطيع أن ننكر هذه الحقيقة. ممكن أن نقسّي قلبنا لدرجة عدم القدرة على الحبّ. وبالعكس، لا نستطيع أن نُعظِّم الخطيئة أكثر ما هي. لا يجب أن ننسى أن الخطيئة الّتي قتلت ابن الله، هو قتلها وأنّ سرّ الرحمة الإلهيّة أعظم من الخطيئة وأنّ الرجاء هو أقوى من اليأس وأنّ الله عالم بجبلتنا وعارفٌ أنّنا تراب (مز 103) وهو قادرٌ أن يُحوِّل الموت الّذي اخترناه أن يصدر منّه الحياة. فعلينا أن ننتبه أنّ لا نعلق بين التتفيه أو التعظيم. الّذي يتهاون بالخطيئة الصغيرة يتهاون بالكبيرة ويقتل يوحنّا المعمدان من دون أن يعرف ويصلب المسيح ولا يسأل، يُعرِّض نفسه للهلاك الأبديّ ولا ينتبه. والّذي يُعظِّم الخطيئة، ويتركها تُعرقل طريقه في كلّ تقدّم، أنكر صليب المسيح وأنكر أنّ له مخلِّص. الله أقوى مِن خطيئتنا. وإنّ كان قلبنا يوبّخنا فالله أعظم مِن قلبنا (1يو). الخطيئة لا تصل إلى هدفها عندما تجعلني أرتكب بعض الأمور بل عندما تدفعني وتحبسني في اليأس.
5 - "من طبيعة الخطيئة أن تدفعني إلى لوم الآخر". آدم يقول لله: "المرأة الّتي جعلتها معي هي أغوتني فأكلت". اللوم على الآخر. بكلّ لوم يوجد لوم على لله. في كلّ خطيئة هناك لوم للآخر ولوم سريّ لله. لوم الله مسألة عميقة جدًا وخفيّة فينا. أولاً، لوم الله هو سرّ غضب يونان وتمنّيه الموت. من جهة نلوم الله ومن جهة نعرف أنّنا لا نستطيع أنّ نلومه. أيوب يقول للربّ كيف أستطيع أن أدخل في لوم معكَ وأنت لا تستطيع أن تُلمس. وإذا لم نسمّي اللوم الّذي عندنا لله لا نستطيع أن نُشفى. أيّوب وحده عرف كيف يتكلّم عن الله لأنّه سمّى اللوم الّذي عنده. اللوم يجعلنا أن نتمنّى الموت وعندها نلوم الله لخَلقِنا. قبول ذاتنا هو قبول الله لأنّ ذاتنا لا تشبه الصورة الّتي نحبّ أن نحصل عليها. ألوم الله لأنّه لم يجعلني القدّيس الّذي أنا أحب أن أكون لكي أعجب الله. في كلّ هذا اللوم أنا أقرّر ماذا يعجب الله وماذا لا يعجبه. تريزيا الطفل يسوع عرفت أنّ الله زرع أيضًا الزرع الصغير ويحبّه. وثانيًا، إلقاء اللوم على الآخر والخطيئة يضرب التضامن بين البشر. عندما ألوم الآخر أكسر التضامن. هو الّذي يستحقّ العقاب وأنا لا. الخطيئة وحش يلتهم البشر واحدًا واحدًا. الخطيئة عندما تستفرد فينا تكسرنا وعندما نتضامن نكسرها. يسوع كسر الخطيئة عندما كتب باسمه خطايا البشر كلّهم. يسوع كسر الخطيئة عندما قال أنّ ذنبكُم هو ذنبي وقداستي هي قداستُكم (وحدت يا ربّ…). كَسَرَ الخطيئة عندما ربط نفسه بكلّ خاطئ دون أن يبرّر نفسه. تريزيا الطفل يسوع تريد أن تكتب باسمها كلّ الخطايا لكي تربح كلّ غفران الله دون أن يضيع أيّ ذرّة منه. لذلك الكنيسة الّتي هي شركة الخطأة والقدّيسين هي علامة الغفران لكلّ الأجيال، هي الصخرة الّتي تنكسر عليها كلّ الخطايا لأنّها الشركة بين البشر ومع الآب والابن أي الروح القدس.
6- "الخطيئة تُخفي ذاتها". عندها، الإنسان الخاطئ لا يشعر بالخطيئة. مثل قصّة داوود عندما قُتل أوريَّا إلى حين سمِع قصّة ناتان. كلّ ما كان الإنسان الخاطئ كلّ كلما لم يعد يشعر بالخطيئة. القدّيسين هم الّذين لديهم شعور قويّ بالخطيئة. ليس شعور الذنب مثلما قال القدّيس فرنسوا دي سال: عندما أخطئ لا أتمرمر لأنّ التمرمر من الكبرياء، أنا أحزن لأنّي جرحت حبّ الله. ولأنّي أعرف إذا أخطأت أنّني ضعيف وأحزن لأنّي جرحت الحبّ. ولا أتمرمر بالكبرياء. نحن نتمرمر لأنّنا نشعر بالذنب وليس بالخطيئة. الذي يشعر بالخطيئة هذا لأنّه قريب من الله ويعرف الخطيئة. الخطيئة هي دائمًا ضدّ الله، ضدّ حبّه. خطايانا الكبيرة هي مُخبأة عن أعييننا ولا نرى إلّا الصغيرة. الخطايا الظاهرة ليست إلّا نتائج السطحيّة لخطايا عميقة. عندما أريد أن أتوب عليّ أن أذهب إلى العمق إلى المصدر ولا أضيّع وقتي في مُحاربة الأشكال الظاهرة. مثل الغضب الّذي يأتي ربّما عن طموحات سريّة أخاف أن أعترف بها حتّى لنفسي. الحياة الروحيّة لا تتطلّب قوّة إرادة بل حكمة وفهم.
7- "الخطيئة في كلّ خطيئة". الجذر العميق للخطيئة. الخطيئة في كلّ خطيئة هي رفض في أن أكون أنا. الحيّة تقول لحوّاء: يوم تأكلان من هذه الثمرة ستصيران مثل الآلهة" وهذا يعني أن آدم يرفض من هو ويطلب أن يكون مصدر ذاته ورفض مصدره. رفض أن أكون أنا وهذا الرفض مبني على كذبة الحيّة الّتي تقول لآدم أنّ الله لا يريد أن يُعطيكَ كلّ شيء. الله غيران منكَ. ما الّذي يُردّ على هذه الكذبة. كيف خلّصنا يسوع؟ يسوع خلّصنا بالصليب لأنّ الصليب يُردّ على هذه الكذبة. يقول لنا القدّيس بولس في روما 8 \ 32: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا ايضا معه كل شيء". الكذبة كانت أنّ الله لا يريد أن يُعطينا كلّ شيء. دخل آدم في الكذبة. الّذي أعطانا ابنه أعطانا كلّ شيء معه. "كلّ ما هو لي هو لَكَ". الجذر الأساسيّ هو الخوف من الله والحذر ولا أقبل نفسي وأنسى وأقتنع أنّني مصدر ذاتي وهذا مُعتمد على الخوف أنّ الله لا يريد أن يعطيني كلّ شيء. الله يُراهن أنّ الإنسان يستطيع أنّ يُحبّ الله والإنسان يُراهن على الله أنّه وهبه كلّ شيء حتّى عندما تكذّب الدنيا هذا الشيء حتّى عندما أرى الألم والموت أراهن بأنّ الله يريد أن يُعطي الحياة. حتّى عندما المرأة الكنعانيّة رأت صمت يسوع راهنت أنّه سيشفي ابنتها. حتّى عندما الناس سكّتوا برتيماوس راهن أنّ الله يريد أن يشفيه. هو رهان متبادل أقوى من سرّ المعصيّة.
الشعور بالذنب والشعور بالخطيئة
الشعور بِالخَطيئَةِ غَيرُ الشُعُور بِالذَنب.
الشعُور بِالخَطِيئَة هو انكشاف révélation ، هُوَ ضَوءٌ وَنُورٌ تُغمُرُهُ التَعزِيَة، انكِشَافٌ لِهُروبِي مِن أمَامِ مَن يُحِبُّنِي. أشعُرُ بِالخَطِيئَةِ أمَامَ حُبِّ الله عِندَمَا أشعُرُ بِمَدَى حُبِّهِ لِي مَع التعزِيَة بَعَد أن أُدرِكَ مَدَى مُقَاوَمَتِي لَهُ. شُعُورُ العِتَاب العَذب عِندَمَا أسْمَعُ صَوتَ اللهِ يَقُولُ لِي "لَن أنْسَاك"!
الشُعُور بِالذنب يَكونُ تِجَاهَ صُورَةٍ مِثَالِيَّةٍ عَن الذَات، هُوَ عَدَمُ تَحقِيقِ مَا هُوَ بِرأيي وَاجِبٌ تَحقِيقُه (أو بِطَلَبٍ مِن أحدٍ مَا)، هو الوَجهُ الآخَر لِلشُعور بِالحِرمَان وَالظُلم. (عَادةُ سَيِّئَة تُرافِقُنِي...التَعصِيب مِنَ التَعصِيب لأنَّني مُعَصِّب، إنَّهَا دَوَّامَةُ التَعصِيب). الشُعور بِالظُلم وَالذَنب وَجهانِ لِعُملَةٍ وَاحِدَة. الشُعُور بِالظُلم يُنَمِّي الغِيرَة، وَمَا يُحَرِّرُ مِنهُما هُوَ الشُعُور بِالخَطِيئِة الَّذِي يُوضِحُ لِي بِانَّنِي لَستُ الضَحِيَّة وحَتَّى أنَّنِي لستُ مَصْدَرَ الشَرّ. (نَذر العِفَّة والإحسَاس بِالحِرمَان وَالظُلم وَالذَنب). أرفُضُ أن أكُونَ الضَحِيَّةَ أو أصل الشَرّ. اختِبَار مُزدَوِج. عَالَمُنا مَطبُوعٌ بِالخَطِيئِة وَنَحنُ ضَحايا وَمسؤولِيَّتُنَا أن نَعرِف تَسيِّرَ حَياتِنَا. نَحن في نَفسِ الوَقتِ خَاطِئِينَ وَمُخَلَّصِين، لَنَا مُخَلِّص، وَشُعُورُنَا بِالخَطِيئَة يَجِبُ أن يُوصِلَنَا إلى المُخَلِّص، وَإلاَّ فَهوَ فَخٌّ مِنَ الشِرِّير. وَمِن إنَعَامَاتِ الرُوحِ القُدُس أنَّهُ يَقُودُنَا إلى هَذَا الشُعُور، الشُعُورُ بِالخَطِيئَة.
نَطلُبُ مِن الرُوح القُدَس أن يَكشِفَ لنَا الخَطِيئَة. لاكتشَافِ المُخَلِّص وَالخُروجِ مِن دَائِرَةِ الظُلم وَالذَنب.
عِندَمَا نَكتشِف ذَواتِنَا، نُصَادِف نَوعَينِ من النَفوس: النَفس الرَقيقَة الَّتي تَمِيلُ أمَامَ الخَطِيئَةِ إلى الشُعُور بِالذَنبِ وَالأسى وَاليأس، عَلَينَا دائمًا التَذَكُّر بِأنَّ المُخَلِّصَ انْتَصَرَ وَأننا نحَارِبُ في مَعرَكَةٍ مَحسُومَة، وَالنَفْسُ الغَليظَة تَميل إلى جَعلِ الخَطيئَةِ تَافِهَة وَأنَّ رَحمَةَ الله وَاسِعَة. الخَطيئَةُ تُشَوِّهُ الإنسَانِيَّة وَتَدفَعُ الإنسَان عَلَى الانقضاض عَلَى أخيه وبالتالي على يسُوع يومِيًّا.
الخَطيئَة لا تَبلُغُ غَايَتُهَا إلاَّ عِندَمَا تُوصِلُ الإنسَانَ إلى اليَأسِ الآتِي مِن كَسْرِ التَضَامُنِ بَينَ البَشَر (هَدَفُهَا أن أقُومَ بِأعْمَالٍ ضِدَّ الله) وَتدفَعُنَا إلى إلقاء اللومِ عَلَى الآخَرِ أي أن أُبرِّرَ نَفْسِي فَيَسْتَفْرِد الوَحْشُ بالإثنَيْن، وَالتَضَامُنُ بَينَ البَشَرِ يَكْسِرُ الخَطِيئَةَ فتُخْلَقُ شَرِكَةُ القِدِّيسِين وَالكَنيسَة الَّتِي تَكسِرُ خَطَايَا البَشَر لِذا هِيَ قَادِرَةٌ عَلَى غُفْرَانِهَا.
في المرّة المقبلة أتوسّع في تمييز عمل الأرواح المختلفة وتأثيرها من انبساط وانقباض، وكيف يجب التعامل معها... ولكنّي أريد أن أضيف منذ الآن ما لاحظه آباء الكنيسة من درجات التجربة. فالتجربة تأتي من الروح الشرّير بشكل فكرة أو أفكار لا قدرة لها، إن لم أصغِ إليها، على لمس شعوري أو التأثير على قراراتي، أو على ظروفي. فكيف تكتسب التجربة قوّةً فتدخلني في صراع معها؟ القوّة الّتي تنالها التجربة تأتي منّي: أنا أعطي التجربة قوّة. هيذي درجات التجربة كما وصفها الآباء:
1. الاقتراح: تأتي التجربة أوّلاً ضعيفة، بشكل اقتراح، فكرة. طالما لم أعطها اهتمامًا، ليس لها القوّة سوى على تسبيب بعض الشرود.
2. المساومة: أدخل في حوار مع الفكرة. بدأت تكتسب قوّة منّي لأنّي أعطيها انتباهًا. تقسمني على ذاتي: أريدها ولا أريدها. تصبح ملحّة. حتّى الآن ما من خطيئة.
3. الخطيئة بالفكر: كلّ الخطايا تبدأ بالفكر عند الآباء. حين أصمّم على تنفيذ الاقتراح الشرّير، أو أقلّه أحتفظ به في ذاكرتي لأتأمّله من جديد، أو أتمنّاه، وأستخسر أنّه شرّير، أكون قد دخلتُ في هذه المرحلة.
4. الخطيئة بالفعل: حين أنفّذ الاقتراح أكسبه "جسمًا"، صار واقعًا مستقلاًّ، صار جزءًا من جسم الخطيئة في العالم. هذه الخطيئة بالفعل.
الأسر: حين تتكرّر الخطيئة بالفعل فتصير عادةً تكرّر ذاتها بذاتها بغير احتياج للمرور بالاقتراح والإقناع والثبات في الفكر، أكون قد دخلت في الأسر، وهنا يصير الخروج من الخطيئة صعبًا للغاية، فتبدو التجربة قويّة، في حين أنّها ليست قويّة.
حديث رقم 7
التشتّت في الصلاة
التشتّت على أنواع ثلاثة:
1. التشتّت "الذبابيّ": يطير فكري من فكرة إلى فكرة مثل الذبابة، بدون منطق آخر سوى تداعي الأفكار. فكرة تجرّ صورة وصورة تجرّ ذكرى وذكرى تجرّ فكرة... يكفي هنا أن أقطع حبل أفكاري وأعود إلى تأمّلي بدون أن ألوم نفسي ولا أن أسمح للتشتّت أن يحبط عزيمتي. هذا النوع من التشتّت يخفّ حين أتبنّى عادة التأمّل. يمكنني تخفيفه عن طريق تحسين الصلاة التمهيديّة، أي كيف أضع نفسي في حضور الله في بداية التأمّل. إذا أخذت الوقت لأفصل بين وقت التأمّل والوقت السابق أتحرّر من جزء كبير من هذا التشتّت.
2. التشتّت في موضوع ثابت: كلّما دخلت في التأمّل يذهب فكري إلى حدث ما أو شخص ما أو همّ ما. لكي أتخلّص من هذا التشتّت أعطيه وقتًا (غير وقت التأمّل) لكي أفكّر فيه وأعبّر عمّا في داخلي بشأنه، وهكذا أتخلّص منه.
3. التشتّت العنيد: حين لا تكفي الطريقة السابقة للتخلّص من موضوع التشتّت الثابت، ربّما كان الله نفسه يريدني أن أتأمّل في الموضوع أمامه. حينها أترك موضوع تأمّلي وأفكّر في الموضوع من كلّ جوانبه بعد أن أكون قد وضعت نفسي في حضرة الله وطلبت منه نعمة النور لأفهم ما يريد أن يقول لي في هذا الموضوع. أستشير المرافق.
تمييز الأفكار والمشاعر
نخلط أحيانًا بين الأفكار والمشاعر، فنقول إنّ شعورنا سيّء أو خاطئ. ليس الشعور خاطئًا. الفكرة تكون صحيحة أو غير صحيحة، وحين تكون الفكرة غير صحيحة أبعدها عنّي، أمّا الشعور فلا أستفيد من تجاهله. ليس الشعور سيّئًا. القرارات والتصرّفات قد تكون حسنة أم سيّئة، لا الشعور. وحين يكون القرار سيّئًا لا أنفّذه، أمّا الشعور فليس لي أن أنفّذه أم لا. شعوري واقع، لا هو جيّد ولا سيّء، إنّما هو واقع أتعامل معه كما هو. لا أسمح لشعوري أن يقرّر عنّي. السؤال هو كيف أتعامل مع شعوري.
قد يتلوّث الشعور بالأفكار الخاطئة، وعندها يصير الشعور مضرًّا. الشعور قوّة، أمّا الأفكار فليس فيها قوّة. إذا سمحت لفكرة أن تلمس شعوري، يتفاعل شعوري معها. فإن كانت فكرة حسنة كان شعوري مؤاتيًا ويساعدني في تصرّف سليم. وإن كانت فكرة سيّئة وتفاعل معها شعوري، أجد صعوبة في تبنّي تصرّف سليم.
أعطي هنا أمثلة عن أربعة مشاعر كيف تتلوّث بالأفكار الخاطئة:
- الغضب: الغضب شعور نبيل، يتفاعل ضدّ الظلم وضدّ الكذب. هو من صفات الله القدّوس الّذي لا يقبل أن يتواطأ مع الشرّ ولا يساوم على الحقيقة. الغضب هو قدرتنا على تغيير العالم نحو الأفضل. ولكن حين يٌبنى الغضب على فكرة وهميّة يصير غير منظّم. من الأفكار الوهميّة أذكر اثنتين: فكرة "الضابط الكلّ"، أي حين أظنّ أنّ ما خطّطتُ له هو ما يجب أن يكون، فأغضب حين لا يكون ما أريد وأتّهم الناس بالغباوة أو بالعشوائيّة وما إلى ذلك؛ وفكرة المؤامرة، أي حين أظنّ أنّني مستهدف من قبل الناس أو من قبل سوء الحظّ فأشعر بالظلم حيث لا ظلم وأتّهم الله والناس حيث لا مكان للاتّهام.
- الحزن: هو شعور طبيعيّ أمام الفقدان والخسارة. في حدّ ذاته هو تعبير عن الحبّ. ولكن حين يتلوّث الشعور بفكرة أنّ هذا الحزن لا يجب أن يكون، فألوم نفسي عليه، ثمّ ألوم الله على عدم مساعدتي على الخروج منه، فيصير الحزن مرارة أحملها معي ولا أشفى منها. من طبيعة الحزن أن ينتهي، وأن يتحوّل إلى شكر لله على عطاياه. حين أفقد شخصًا عزيزًا، أبكيه وأبكي فقداني إيّاه، ثمّ أخرج من الحزن وأشكر الله على وجوده في حياتي. الحزن هو ما ينقلب فرحًا لأنّ الله يحوّل أحزاننا إلى أفراح. أمّا إذا تلوّث الحزن بالأفكار يتحوّل إلى ضغينة.
- الغيرة: هي الشعور بفرادتي، بأنّي غير قابل للاستبدال. هي العلامة أنّني لا أقبل أن أضيع في النسيان. ولكنّ الشعور يتلوّث بفكرة أنّ نجاح الآخر يضيء على فشلي، وأنّ سعادة الآخر تفضح حزني فأغار، وأسعى إلى أن أجد نقطة الضعف عند الآخر لكي أرتاح.
- الرغبة الجنسيّة: هي البركة الأصليّة في رواية خلق الإنسان وعليها ترتكز رغبتي في الآخر، وبالتالي كلّ علاقاتي. العلاقات بين البشر تسودها الرغبة والعدالة (المساواة) وهما يلتقيان تمامًا. ولكن حين يضيع أحدهما، أي حين تصبح الرغبة تملّكًا لأنّها لا تقيم وزنًا للعدالة، أو حين تصير العدالة وسيلة ضبط لحرّيّة الآخر لأنّي لا أرغب في وجوده، تصير الرغبة الجنسيّة غير طاهرة، أي ممتزجة بأفكار الإغواء والسيطرة. حينئذٍ لا يعود الشعور بسيطًا وبنّاءً، بل يستدعي تصرّفات لا أريدها ولا أحترمها. وهكذا تتحوّل البركة الأصليّة إلى أزمة.
حين لا أميّز بين أفكاري ومشاعري أتصرّف معها بشكل معكوس: فبدل أن أكبت الفكرة الخاطئة وأصغي إلى شعوري العميق وأستدلّ به على رغبتي وهويّتي، أكبت شعوري وكلّ شعور أتجاهله ينتقم منّي، وأصغي إلى الأفكار الكاذبة الّتي لا تدلّني على حقيقتي. أو أدع مشاعري تقود حياتي، فبدل قراءتها والتعامل معها، أتركها تتلاعب فيّ وتؤذيني، بحجّة عدم كبتها. حين أصغي إلى شعوري بدون إشباعه بالضرورة، أنا لا أكبته.
تمييز الأرواح
بدأنا رياضتنا عندما تكلّمنا عن صوت يدعونا إلى الوجود، وهو صوت يسمعه كلُّ إنسان. عندما يسمعه ويختبره، يعرف أنّه حيّ. عندما أكون أمام شخص يحبّني، أكون مرتاح أكثر ومُنطلِق وحيّ. إختبار هذا الصوت يشبه هذه الحالة الّتي وصفتها. هذا الصوت هو روح الحقّ والمؤِّيد. يدلّني على خطاياي لأنّه يحبّ الحق ولأنّه يريدني ويحبّني.
ونختبر أحيانًا أنّه يوجد شيء يُبعدني عن صوت الخالق، يجعلني أسمع كلمات مثل: "كن شيئًا لأحبّك"، هو روح كذّاب ويدعوني إلى العدم، يجعلني أفضّله فأحنّ إلى حالة العدم الذي كنت عليه قبل أن أكون. أكون مثل الشعب اليهوديّ عندما تمنّى أن يرجع إلى العبوديّة في مصر. يقول لي الروح الكذّاب أن حياتي هي غير مُستحقّة أن تُعاش. هو لا يستطيع أن يغيّر الظروف بل يُحاربني عندما يُسمعني كلماته ويجعلني أشكّ. يستغلّ الظروف لكي يعطيني أصواتٍ كاذبة تجعلني أحنّ إلى العدم. مشكلتنا مع الشرّير أنّنا نظنّه قويًّا وأنّه يقول الحقّ بينما هو ضعيف وكاذب. لا يوجد خطر علينا لمجرّد أن نعرف أنّه كاذب وضعيف.
الروح الصالح يدعوني لكي أنظّم حياتي ومن مفاعيله هو الانبساط.
الانبساط هو:
- في الدرجة الأولى المحسوسة، سعادة كبيرة، أشعر أنّ الوقت مرّ سريعًا في التأمّل.
- في الدرجة الثانيّة غير المحسوسة، هي عندما أتجرّأ أن أدخل إلى أعماقي بدون أي تردّد.
- في الدرجة الثالثة، عندما أنمو روحيًّا بالإيمان والرجاء والمحبّة.
الانبساط هو عندما نريد أن نكون نحن وأحبّ أن أعيش حياتي. ممكن أن نشعر بانبساط كاذب. ولكن لن يُعطيه الشرّير الآن لأنّ هذا ليس من مصلحته لأنّنا نرتّب حياتنا من خلال التأمّلات والانبساط يُساعِد في ذلك.
الروح الكاذب يعطينا الآن انقباضًا.
ما هو الانقباض؟
هو حالة داخليّة نشعر فيها أنّنا لا نريد أن نكون نحن. ونستعمل كثيرًا كلمة "لو". نشعر أنّ حياتنا لا تُستحقّ أن تُعاش. هو شعور الانفصال عن الخالق. على مستوى ملموس، نشعر بالقرف ولا نستطيع أن نكمل التأمّل والوقت يمرّ بصعوبة. يعطينا نوعًا من الجفاف وعدم الرضى عن كلّ ما نفعله.
الانبساط والانقباض مفيدَين في مسيرتنا. وقد يسمح الروح الصالح بالانقباض.
عندما أكون في حالة انبساط، أشكر الله على هذه الهدية. ولا أتملّكها وكأنّني استحققتُ هذا الانبساط. وإلاّ سأشعر بالأزمة عندما أدخل في الانقباض. الانبساط مجّانيّ من الله.
عندما أكون في انقباض يجب أن أتذكّر ٤ كلمات: الصبر، الثقة، الهمّة، الحكمة:
- إذا صبرت على الانقباض، أقبله كما هو. لا أفضّل أي ظرف على آخر، هذا ما يعنيه السخاء. الشرّير يحاول أن يقنعني أنّ هذا الانقباض هو حالتي النهائيّة. لا أصدّقه.
- الثقة هي عكس الحذر الّذي يزرعه الشرّير في داخلي. يريدني الشرير أن أحذر من الله، يزرع فيَّ أفكار: أين هو الله؟ كيف تركك هنا؟ نغلب الشرّير بقدر ما نثق بالله. عندما أسير في وادي ظلال الموت أعرف أنّك معي. أراهن على الله أنّه لا يتركني، وحتّى لو كنت غير أمينًا يبقى الله أمينًا.
- الهمّة وهي عكس التراخي الذي بسببه لا أقوم بأيّ مجهود لكي أتقدّم، وعند أوّل عائق أتراجع.
- الحكمة وهي عندما أعرف الأسباب الّتي تدخلني بالانقباض.
عادةً هناك ثلاثة أسباب للانقباض:
١. مدرسة النخوة: يسمح الله بأنّ يتعرّض الأشخاص للانقباض لكي يزيد من نخوتهم. الروح الشرّير يتسلّل على أفكارنا بسماح من الروح الصالح لكي نتعلّم النخوة والهمّة حتّى لا نُقصِّر من حياتنا الروحيّة. الربّ لا يعطي نِعمَه لأناسٍ غير مستعدّين أن يقبلوها ولا يهتمّون. ولهذا السبب يسمح الربّ بهذا الانقباض. هذا السبب الوحيد الّذي نكون فيه مذنبين.
٢. مدرسة المجّانيّة: عندما نشعر بالانبساط لأوّل مرّة، نريد أن نعود إلى التأمّل لنشعر بهذا الانبساط عن جديد. تُصبح علاقتنا بالله علاقة استهلاكية. ولكي نحبّ الله مِثلَما يحبِّنا، ينسحب هو لكي نطلبه أكثر. هو يحتجب لكي نطلبه بشوقٍ أكبر.
٣. مدرسة التواضع: يسمح الله بالانقباض لكي نعرف ليس بالعقل فقط بل بالشعور العميق أنّ كلّ عطيّة صالحة هي من الله وليست منّا. الانقباض يجعلني لا أدين أحدًا ولا أغار من أحد. هذا هو التواضع: معرفة عميقة أنّ الله هو كلّ شيء. تصبح الحياة مُفرحة وفيها حريّة أكثر. عندما نعرف لغة الله، ينمّينا أكثر فأكثر بلغته. وكذلك أنال اطمئنانًا أنّ انبساطي السابق ليس وهمًا: لأنّي لا أستطيع أن أخرج بذاتي من الانقباض، أعلم أنّ الانبساط ليس خاضعًا لأوهامي.
الشرّير يريد أن يمنعني أن أكون. يجب أن نعرف ٣ أمور عن أسلوبه:
١. ضعيف جدًّا: ويكون قويًّا عندما يستعمل قوّتي ضدّي. لا أعير التجربة انتباهًا حين يكون بابي مُغلقًا تجاهها. تبدأ التجربة ضعيفة. ولكن هنالك عدّة أشياء ممكن أن تضعف رغبتي (مثلاً الشعور بالظلم أو بالحرمان...) وتقوّي التجربة وعندها أصبح مُنقسمًا على ذاتي. وهنا أصبح أضعف وأضعف وتصبح التجربة أقوى أكثر فأكثر.
٢. لا ينجح في مساعيه إلّا إذا بقي خفيًّا: عندما نكشفه يصبح ضعيفًا. يعطيني مع كلّ فكرة، فكرة أخرى بأن لا أخبر أحدًا بهذه الأفكار. لهذا فإنّ الحديث مع المرافق يساعدني على كشف أفكاره.
٣. الشرّير يُراقبني: الشّرير لا يستطيع أن يعطيني أفكار بل يخلط الأفكار لكي يؤذيني. هو إيحاء وهو ليس جزءًا منّي. هو كذبة. الشرّير يُراقبني من الخارج ويراقب تصرّفاتي لأنّه لا يستطيع أن يدخل إليّ. ولكن إذا تهاونت، يعرف الشرّير كيف يدخل من خلال تهاوني. هو يعرف نقطة ضعفي ليضربني فيها ولكن من بعد مرور الأذيّة، أصبحت أعرف أين هي نقطة ضعفي. إذا كنت متواضعًا، أستفيد من التجارب وأعرف في كلّ مرّة نقطة ضعف جديدة وأحصنّها من جديد. وإذا كنت متكبّرًا ولا أقبل أنّ الشرّير غلبني، أنكر أنّه دخل وأنكر أنّ هذا من عمله وأصل إلى أن يسيطر على كلّ حياتي وأنا غافلٌ عن هذا. التواضع هو المفتاح لتمييز الأرواح.
رسالة في تمييز الأرواح
إلى تريزا ريخاديلاّ
البندقيّة في ١٨ حزيران ١٥٣٦
فلتكن نعمة المسيح ربّنا ومحبّته دائمًا في صالحنا وعوننا
تلقّيت رسالتك مؤخّرًا وكانت لي سبب فرح عظيم في الربّ الّذي تخدمينه وترغبين في خدمته أكثر. إليه ننسب كلّ الخير الّذي نراه في المخلوقات. أخبرتني في رسالتك أنّ "كاسيريس" سيعلمني مطوّلاً بأحوالك وقد فعل، كما أنّه أعلمني بالسبل والنصائح الّتي زوّدك بها لكلّ مسألة طرحتها. بعد قراءة رسالته لا أجد ما أضيف إلى ذلك، ولكنّني أفضّل أن تخبريني أنت، فما من أحد يقدر أن يفسّر الاختبار أكثر ممّن انطبع به.
تطلبين إليّ حبًّا بالله أن أعتني بنفسك. والأكيد أنّ الجلالة الإلهيّة قد أعطتني منذ سنوات كثيرة، وبلا استحقاق من قبلي، رغبات كبيرة في أن أخدم على قدر استطاعتي كلّ الّذين يمشون في طريق إرادتها القدّوسة. أريد أيضًا أن أخدم أولئك الّذين يعملون كما يجب على خدمتها. وبما أنّي لا أشكّ مطلقًا أنّك منهم أودّ أن أترجم كلماتي بالأعمال.
تسألينني بإلحاح أن أكتب إليك ما يلهمني الربّ وأن أقول لك بوضوح ما رأيي. سأقول رأيي في الربّ وأعطيك التوضيحات اللازمة. إن وجدت فيها شيئًا من الخشونة فاعلمي أنّها موجّهة ضدّ الّذي لا يتوانى عن شيء لإزعاجك، لا ضدّك شخصيًّا. وإنّما العدوّ يقلقك في مجالين. فهو لا يقدر أن يقودك إلى الخطيئة الّتي تبعدك عن إلهك وربّك ولكنّه يحاول أن يبعدك عن الخدمة الأسمى وعن السلام الأكبر في نفسك. فهو أوّلاً يدفعك إلى تواضع كاذب، وثانيًا إلى خوف من الله مبالغ فيه حتّى إنّه يوقفك ويشغلك أكثر من اللازم.
في النقطة الأولى تكتيك العدوّ مع المبتدئين في خدمة الله ربّنا يقوم على استثارة الموانع والعقبات. هوذا أوّل أسلحته. مثلاً يطرح الفكرة التالية: "كيف ستقدرين على تمضية حياتك في توبة عظيمة كهذه، محرومة من فرح الأهل والأصدقاء والمقتنيات، في حياة عزلة، بلا استراحة؟ أليس من طرق أخرى لخلاص النفس لا تمرّ بهذه المخاطر؟" يجعلنا نظنّ أنّنا في وسط المشقّات الّتي يعرضها علينا سنعيش أطول حياة ممكنة، ولكنّه يحجب عنّا التفكير في المدد والتعزيات الكثيرة الّتي اعتاد الربّ أن يمنحها خادمه الجديد إن هو تخطّى هذه الصعوبات بأن يختار أن يرغب في المشقّة مع خالقه وربّه.
بعد ذلك يستخدم العدوّ المجد الباطل، سلاحه الثاني. فيفهم الإنسان أنّ فيه الكثير من الخير والقداسة، ويضعه في مكانة أعلى من استحقاقه. فإن قاوم خادم الله هذه السهام، إن هو واجهها بالتذلّل والتواضع، رافضًا تلك الصورة عن الذات الّتي يعرضها له العدوّ، يستخدم هذا الأخير سلاحه الثالث، وهو التواضع الكاذب. فهو حين يرى خادم الله بهذه الطيبة والتواضع بحيث يرى نفسه من العبيد البطّالين، مع أنّه يتمّم مشيئة الله، ويعتبر ضعفه أوّلاً لا مجده الخاصّ، يضع في فكره أنّه إن تكلّم في نعمة نالها من ربّنا، في أعمال أو قرارات أو رغبات، يقع في خطيئة المجد الباطل من جديد بما أنّه يتكلّم لصالح نفسه. بهذه الطريقة يدفعه إلى السكوت عن الخير الّذي ناله من الربّ ليمنعه عن حمل الثمار في الآخرين أو في ذاته، لأنّ ذكرى الخير الّذي نلناه يدفعنا إلى خير أعظم. بالطبع إن تكلّمنا فبكثير من الاعتدال وبهدف الاستفادة الروحيّة في النفس أو عند الآخرين إن كانت نفوسهم مستعدّة وقابلة للاستفادة.
وهكذا يسعى العدوّ إلى دفع سعينا إلى التواضع نحو تواضع كاذب، متطرّف وفاسد. رسالتك مثال عن ذلك. بعد أن ذكرت بعض اختبارات الضعف وبعض المخاوف في شأنها تضيفين: "أنا راهبة بسيطة ويبدو لي أنّي أرغب في خدمة المسيح ربّنا". لا تجرؤين على القول: "أرغب في خدمته" أو "الربّ يعطيني الرغبة في خدمته" بل تقولين "يبدو لي...". لو نظرت جيّدًا لرأيت أنّ الرغبات في خدمة المسيح ربّنا لا تأتي منك. الربّ يمنحك إيّاها. وحين تقولين "الربّ يعطيني رغبات أعظم في خدمته" تعلنين تسبيحه لأنّك تعلنين عطيّته، وتفتخرين فيه لا بذاتك بما أنّك لا تنسبين النعمة إلى ذاتك. علينا إذًا أن ننتبه حين يرفعنا العدوّ أن نتواضع ناظرين إلى خطايانا وضعفنا، وحين يذلّنا ويحزننا أن نرتفع بفضل إيمان حقيقيّ وبرجاء في الربّ، معدّدين الخيرات الّتي وهبها لنا وبأيّ حبّ ولطف ينتظرنا ليخلّصنا! أمّا العدوّ فلا يهمّه حقّ أم كذب، ما يهمّه هو أن يغلبنا. انظري إلى الشهداء أمام الحكّام الوثنيّين يعلنون أنّهم خدّام المسيح. وأنت أمام عدوّ الطبيعة البشريّة الّذي يجرّبك، حين يريد أن ينتزع منك القوّة الّتي وضعها فيك الله ويريدك ضعيفة وخائفة أمام حبائله، لا تجرؤين على القول "أرغب في أن أخدم ربّنا"، في حين أنّه عليك أن تصرّحي وتعلني بلا خوف: "أنا أمة الربّ، أموت ولا أتراجع عن خدمته." فإن عرض عليّ العدوّ العدل أنظر إلى الرحمة، وإن كلّمني بالرحمة ألجأ إلى العدل. هكذا أسير بلا اضطراب فأسخر من الساخر. فهذا ما تقوله الكتب أيضًا: "احذر أن تذلّ فتقع في الغباء" (سيراخ ١٣: 8).
فلنأتِ إلى النقطة الثانية. حين يملأنا العدوّ من الخوف عن طريق تواضع كاذب بحيث لا نجرؤ حتّى على الكلام في الأشياء الحسنة والمقدّسة والمفيدة، يدفعنا إلى خوف أسوأ: "ألسنا مفصولين ومرفوضين وبعيدين عن ربّنا؟" هذا ما ينتج عمّا سبق. فإن نجح العدوّ في مسعاه الأوّل سهل عليه الثاني. لكي أشرح قليلاً سأقول لك كيف يغشّنا الشرّير. إذا وجد أمامه شخصًا يتساهل مع الخطايا ولا يرى أذاها، يسعى بكلّ قواه إلى أن تصير الخطيئة العرضيّة لا شيء، والخطيئة المميتة عرضيّة، والخطيئة المميتة الخطيرة غير بذي شأن. فهو يستعمل النقيصة الّتي فينا، أي التساهل. وأمّا إن كان يتعامل مع إنسان غير متساهل (أي ليست لديه هذه النقيصة)، يعلم أنّه سيسعى إلى الامتناع عن كلّ الخطايا المميتة والعرضيّة على قدر استطاعته (وهذا ليس باستطاعة الجميع)، بل يسعى إلى الابتعاد عن كلّ ما يشبه الخطأ ولو بسيط، وعن كلّ نقيصة، فيحاول إذًا أن يعذّب هذا الشخص بأن يجعله يعتبر خطيئة ما ليس بخطيئة، وأن يرى النقص حيث لا نقص، لكي يضلّلنا ويحزننا. وإذا لم يقدر بهذا الطريق أن يدفعنا إلى الخطيئة يكتفي أقلّه بتعذيبنا.
لكي أشرح بدقّة أكثر كيف يأتينا هذا الخوف سأذكر سريعًا درسين اعتاد الربّ أن يعطي أحدهما ويسمح بالآخر. الدرس الّذي يعطيه هو الانبساط الداخليّ الّذي يبعد كلّ قلق ويجذب النفس كلّها إلى حبّ الربّ. هذا الانبساط هو للبعض استنارة، وللبعض كشف للأسرار، أو ما شابه. ومع هذا الانبساط الإلهيّ كلّ المشقّات تصير متعة وكلّ الأتعاب راحة. والنفس الّتي تسير في هكذا حرارة وحماس وانبساط تستسهل أصعب الأمور، وتستعذب أشقّ الظروف. الانبساط يكشف لنا الطريق الّذي يجب علينا خوضه ويفتحه أيضًا، ويظهر لنا ما يجب تجنّبه. ليس الانبساط دائمًا في متناولنا بل يأتي إلينا في أوقات حدّدها الله في قصده، وكلّه لفائدتنا.
وأمّا حين لا تكون النفس في الانبساط، فهوذا الدرس الثاني. أعني أنّ عدوّنا القديم يجمع كلّ الصعوبات الممكنة ليردعنا عن الطريق الّذي بدأنا أن نجدّ فيه. فهو يحزننا بعنف بالغ وتمامًا على نقيض الدرس الأوّل لا ينفكّ يرمي فينا التعاسة بدون أن نعلم لأيّ سبب. فلا نشعر بأيّ اندفاع إلى الصلاة، أو إلى المشاهدة، ولا بأيّ طعم أو تذوّق داخليّ في الكلام أو الإصغاء في ما يتعلّق بالله ربّنا. بل أيضًا، إن وجدنا منهكين، منسحقين من جرّاء هذه الأفكار القاتلة، يضع في فكرنا أنّنا تمامًا منسيّين من قبل الله ربّنا، فنتوصّل إلى الظنّ بأنّنا مفصولين عن ربّنا، وكلّ ما فعلنا أو نرغب في فعله لا قيمة له. وهكذا يسعى إلى أن نفقد الثقة. فعلينا أن نرى من أين يأتي هذا الخوف وهذا الضعف الكبيرين. فنعتبر إذًا كلّ شقائنا ونحزن بتأثير أفكار مضلّة. فلهذا على من أراد أن يصارع أن ينتبه. أأنا في انبساط؟ فلأتذلّل مفكّرًا في أنّ التجربة لن تلبث أن تأتي. أأنا في التجربة والظلمة والحزن؟ فلأقاومها منتظرًا بصبر تعزية الربّ الّذي يبدّد كلّ هذه الاضطرابات وكلّ هذه الظلمات.
يبقى أن نقول كيف علينا أن نفهم ما نشعر به على أنّه يأتينا من الله ربّنا وكيف نستفيد منه. كثيرًا ما يفتح ربّنا النفس على حضوره، فيجذبها ويقودها إلى عمل ما. يتكلّم في داخلها بغير كلمات ويرفعها إلى حبّه بحيث لا تستطيع ولو أرادت أن تقاوم شعوره. هذا الشعور هو له ويصير لنا، وهو يتوافق حكمًا مع الوصايا ومع توصيات الكنيسة ومع الطاعة الواجبة لرؤسائنا، هو مليء بالتواضع لأنّه هو هو الروح الإلهيّ الحاضر في كلّ شيء. ولكن يمكن لنا هنا أن نخطئ. فبعد هذه التعزية وهذه الالهامات تبقى النفس في الفرح. فيقترب العدوّ إذًا في ظاهر الابتهاج والألوان الجميلة ليجعلنا نضيف شيئًا إلى ما نلناه من الشعور الإلهيّ لكي نصل إلى الفوضى والضياع الكامل. أحيانًا يجعلنا نضعف الدرس الّذي تلقّيناه، ويثير الحرج والعقبات لكيلا نتمّم حتّى النهاية ما ظهر لنا. هنا يجب الانتباه أكثر من أيّ مكان آخر. فكثيرًا ما نمنع رغبتنا العظيمة في الكلام عن أمور الله، وفي أوقات أخرى نتكلّم أكثر ممّا تدعونا إليه الرغبة والحركة الداخليّة. في هذه الأمور يجب أخذ الآخرين بعين الاعتبار أكثر من الذات. حين يحاول العدوّ هكذا أن يضيف أو ينقص من الأفكار الجيّدة الّتي نلناها، علينا، إن أردنا مساعدة القريب، أن نتصرّف كمن يعبر المياه فوق الحجارة المرصوفة. هل ترى السبيل، أي رجاء الفائدة؟ إذًا اعبر. هل المياه عكرة، أي أنّ كلامنا الحسن قد يؤذي أكثر ممّا يفيد؟ إذًا عليك بضبط النفس باحثًا عن وقت أكثر ملاءمة للكلام. (...)
ختامًا أسأل الثالوث الأقدس أن يعطينا بجوده الوافر والشامل نعمته الكاملة ليكون فينا حسّ إرادة الله القدّوسة لنتمّمها كاملة.
إغناطيوس
الفقير بالفضيلة
حديث رقم 8
سرّ المغفرة والمصالحة
نحن في مسيرة تأخذنا لمعرفة ذواتنا وخطيئتنا حتّى نصِل ونعرِفَ مَن هو الـمُخلّص. سأعرفه معرفة شخصيّة على أنّه مخلّصي أنا. شعار هذه المرحلة هو: "تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم" (يو ٨\٣٨). عندما نعرف روح الحقّ يحرّرنا ويكشف عن ظلماتنا لأنّه يحبّنا ولأنّ حقيقتنا النهائيّة والأعمق هي في الـمُخلِّص. نمرّ بهذه المرحلة لنختبر رحمة الربّ. اكتشافاتنا في هذه الأسابيع هي جديدة لنا وليست لله. قال الله كلمة "كُن" بالرغم من هذه الظلمات الّتي رأيتها أنا الآن. حبّ ربنا ليس عن استحقاق وهو مجانيّ. لا استحقاق في الحبّ.
نميّز ٣ درجات من الغفران:
١ . الدرجة الأولى : الغفران فصل بين الخاطئ وخطيئته. ليس محوًا للخطايا. هو ليس "محّاية" لأنّ "المحّاية" تلغي الأشياء. إذا أراد الله أن يُلغي الخطيئة الّتي فيَّ يُلغي حرّيتي. الله لا ينسى الخطايا. الغفران هو خلق جديد. أنا أغفر عندما أفصل بين الخاطئ وخطيئته. يؤكّد لنا المزمور ١٠٣ أنّ الربّ أبعد عنا معاصينا كبُعد المشرق من المغرب (مزمور ١٠٣: ١٢). عندما أمحي خطيئة الآخر، ألغي حرّيته. الغفران في الكتاب المقدّس، هو فصل بين الخاطئ وخطيئته. عندما أقول للآخر أنّه يوجد مستقبل بيني وبينه، حتّى بعد الخطيئة، ذلك لأنّي أفصل بينه وبين خطيئته. مثل زوجين عاشا خبرة الخيانة وأرادا أن يكمّلا العلاقة. لا ينسيان، بل يراهنان على أن تُكّمّل العلاقة بالرغم من هذه الخطيئة. الغفران يكلّف دائمًا. يسوع حقّق لنا هذا الغفران عندما قال للآب : يا ابتاه اغفر لهم لانهم لا يعلمون ماذا يفعلون (لوقا ٢٣\٣٤). وهذا ما حصل أيضًا في قصّة قايين وهابيل: يوجد رهان من الله على قايين أنّه قادر أن يرجع إلى طريق الأخوّة بعد أن ضلّ الطريق. ولهذا يرفض الربّ أنّ يموت فهو يُراهن عليه أنّه قادر على أخوّة جديدة. أراهن على الإنسان أنّه أكبر من الخطيئة وهو قادر على أن يُحبّ.
٢ . الدرجة الثانية: أرى في الخطيئة نفسها نورًا، أي حبًّا مجروحًا ومشوَّهًا. هذه قدرة أكبر على الغفران. التجربة في قصّة آدم وحوّاء كانت في "أن يُصبحا كآلِـهة" في حين أن دعوة الإنسان أن يصبح واحدًا مع الله. دعوتي هي في مكانٍ حيويّ عندي، هو مكان أهملته وأتوجّع منه. يوجد خلف خطيئتنا نور وبحث حقيقيّ عن الحب. هذا ما يراه الله عندما يرى بحث عن الحبّ، بحث ضيّع الطريق. عندما يرى النّور في وسط ظلماتي. مثل الزواني والعشّارين عندما رأى يسوع نور في الظلمة. أن أرى حتّى في خطيئة الإنسان نورًا، هذه قدرة هائلة على الغفران ولا يستطيع الإنسان عليه وحده.
٣ . الدرجة الثالثة : هي درجة فقط إلهيّة. عندما يشكر الإنسان على الخطيئة الّتي أوصلته إلى هنا. هذا عندما يصدر خير من وسط الشرّ. يقول القدّيس أغوسطينوس: "سعيدةٌ هي خطيئة آدم الّتي جلبت علينا مُخلِّصًا كهذا". الغفران هو عندما يأخذ معي الربّ طريق الموت لكي يوصلني إلى الحياة.
هل أراد الله موت يسوع؟ لا! ولكن يقول يسوع: من يد الآب أتناول الكأس. الله الآب مشى مع يسوع طريق الموت لكي يُصدر لنا خلاصًا. حتّى مع تاريخي المرّ، أريد أن أكون أنا. نرى في الكتاب المقدّس عدّة أمثلة عن هذه الدرجة كما في قصّة يوسف في الفصل ٥٠ في سفر التكوين. قال يوسف لإخوته : "ما نويتم به شرًّا لي نوى به الله خيرًا لهم". (تك ٥٠: ٢٠). الله أصدر من الشرّ خيرًا لإخوته وهنا يظهر الغفران.
الفرق بين الغفران والمصالحة
الغفران هو من دون شروط وأعطي مجّانًا على الصليب. يوجد شرط واحد للغفران وهو موجود في الإنجيل: "وإن لم تغفروا للناس زلاّتهم لا يَغفرُ لكم أبوكُم أيضًا زلاّتِكُم" (متّى ٦: ١٥). لماذا يقول هذا؟ هل وضع شرطًا للغفران؟ هل يغفر على قدر غفراني للآخرين؟ كلاّ، طبعًا. الله أعطى الغفران ولكن إذا لم أغفر لأخوتي لا أصدّق أنّ الله غفر لي وبالتالي لا أصل إلى المصالحة.
يختلف الغفران عن المصالحة. الغفران يقوم على أنّ الربّ يريد أن يعطيني الحياة وهذا تمّ على الصليب. ولكن إذا لم يثمر الغفران فيَّ مزيدًا من الحبّ، يعني أنّني لم آخذه بعد. آخذ الغفران عندما أقبل أنّي أخطئت. عندما أعترف أنّني خاطئ، سأختبر هذا الغفران (لوقا ٧ : مثل سمعان والزانية الّتي أحبّت واختبرت الغفران على عكس سمعان). لهذا السبب أقامت الكنيسة سرّ المصالحة. أُشبِّه هذا السرّ وكأنّي وباسم خطاياي أذهب إلى أقدام الصليب وأطلب الغفران. وكأنّي أعترف أنّه في المكان الّذي زرعتُ الموت، أعطاني الله الحياة.
كيف نتحضّر للإعتراف؟
الاعتراف للربّ هو الاعتراف بأنّه صالح. أنا ذاهب لأعترف وأشيد للربّ. نرى في عدّة أمثلة يسوع احتفالاً بسرّ الغفران. والغريب أنّنا نحتفل بجميع الأسرار إلاّ بسرّ المصالحة. نحن نذهب لنعترف بعظمة الربّ ونقرّ بالخطايا. أهميّة الإقرار بالخطيئة هو الصدق. عندما يعرف الأب الـمُعرِّف خطاياي، يصبح يعرفني وعندها يُعطيني الحلَّة عن خطاياي.
الغفران هو دائمًا مجانيّ بينما دفع الربّ يسوع الثمن على الصليب. عندما يعطي الأب الـمُعرِّف الحلّة فهو يشهد أنّني مُخلَّص كما هو أيضًا. هذه الكلمة تحرّرني وتجعلني أصدّق أنّني محبوب. الإقرار بالخطايا لوحدي لا يكفي إذ كما أنا بحاجة لمن يبشرّني ويناولني القربان ويعطيني الأسرار، أنا أيضًا بحاجة لمن يسمع اعترافي. الحلّة هي إعادة "تخبير" قصّة يسوع وقصّة خلاصه.
كلّ شيء له قيمة يلزمه تحضير. أتحضّر للاعتراف أوّلاً بفحص الضمير.
فحص الضمير هو قراءة عمل الله في حياتي. أبدأه بشكر الله على نعمه. أتذكّر هذه النعم وأرى عظمة الله في خلقه: "أحمدك لأنّك خلقتني". ثمّ أنظر إلى تفاعلي مع عمل الله الخالق: كيف أنّني لم أصدّق دومًا أنّ الله خلقني للفرح، كيف أنّني نسيت كلمة " كن" وسجنت نفسي في دوّامة الأصنام. كيف أنّني حبستُ قلبي عن الحبّ بسبب غضبي أو مرارتي أو خوفي. وكيف بقي الله أمينًا لي. أرى أيضًا كيف تفاعلتُ إيجابيًّا مع نعمة الله: كيف أحببتُ أصدقائي، كيف رحمتُ، كيف كنتُ صادقًا، وأفهم أنّني قادر على الحبّ وأقرّر ألاّ أسمح لأصوات اليأس أن تحاصرني في المستقبل. أفكّر في قيمة قدرتي على الحبّ وأقارنها مع دوّامات الخطيئة وآخذ قرارًا: أريد منذ الآن أن أتفاعل إيجابيًّا مع صوت الله. أعلم أنّ قلبي غير ثابت فأطلب العون من الله، وأختم بمناجاة.
الاعتراف هو أوّلاً اعتراف بعمل الله: "اعترفوا للربّ فإنّه صالح". ثمّ هو إقرار بالخطايا. الإقرار ليس لائحة، ولكن حين أخفي خطيئة أعرفها، تبقى المصالحة ناقصة. فأحاول أن يكون إقراري شاملاً.
الحلّة هي شهادة من الكنيسة أنّ خطاياي مغفورة. لو قال لي شخص: "اذهب، خطاياك مغفورة" أسأل نفسي: كيف يعرف ذلك؟ باسم من يتكلّم؟ الكاهن في كرسيّ الاعتراف يتكلّم باسم المسيح، وقد نال هذا من الكنيسة. كما لو أنّ الكنيسة تقول لي: "بقدر ما أعرف أنّ المسيح يحبّني أقول لك: أنتَ محبوب." هذا الصوت، الّذي أحتاج إلى أن يأتيني من الخارج لئلاّ أظنّ نفسي موهومًا، لا تقدر عليه أبواب الجحيم.
نقاط للتأمّل بتمارين الأسبوع الثامن
الإثنين 2 كانون الأوّل 2013
نقاط الصلاة
النقطة الأولى :
أتذكّر أنّ الكنيسة هي "جماعة الذين آمنوا واختاروا إتباع يسوع "..أعي بأني اكتسبت هذا الإيمان من أهلي عندما كنت صغيراً..أعي أنه يربطني بهويّة إجتماعية وعاطفية معيّنة..وأعي أنّه آن الأوان لكي أسأل نفسي : والآن، هل أختار، أن أتحوّل إلى صورة "الإبن يسوع "الآمين"، و"الأمين" ؟ هل اقبل بأن أعكس مواعيد الآب بابنه، لبدء خليقة الله الجديدة بالإيمان؟
أطلب نعمة "الشهادة" ، أي نعمة رؤية الحقائق السماوية والدخول في مخطط الله ، لكي أعلن وأقدّم للعالم "وجه القائم من بين الأموات"، المعطي " معنى" للحياة ..
النقطة الثانية :
أعي وجود الشرّ في العالم وفيّ ..يكفي أن أستمع للأخبار اليومية ..كلّها تتحدّث عن الحرب، والقتل، والخطف، والسرقة، والكوارث الطبيعية...أراها تتسابق في البحث عن الإعلان المؤلم والظالم والمرفوض..أرى فيها مأساة البشرألا وهي مأساة الموت الذي يطبع وجودنا بطابع لا يرحم.. أشعر بردات الفعل المختلفة : " الخوف" "الشفقة" ،"النكران" ،"الغضب" ،"اللامبالاة" ،"فرح الإنتقام من جهة معيّنة" ، "العجز" ، "الخنوع"، "لماذا؟"...جواباً على كلّ ذلك، اسمع صوت الإبن يدعوني للخروج من حالة "لا بارد ولا حار" والدخول في حالة " الإضطرام بنار قيامته وحضوره الممجد" ، في واقع "إختيارالحياة معه التي ترتفع فوق الأحداث وتتجاوزها" وذلك بتحقيق سلام وجمال هذا العالم، لا "بالكلام واللسان ، بل بالعمل والحق"...
النقطة الثالثة :
أختار مكاناً يساعدني على الولوج إلى أعماق قلبي..ليس "قلب اللحم" ولا "قلب العواطف والأحاسيس"، إنما إلى أعماق ذلك القلب الذي يميّزني عن كلّ الخلائق ، إلى القلب الذي لا يستطيع أحد أن يطاله إلا بإذني..أتحسس أبوابه المغلقة بمفاتيح "ألإكتفاء الذاتي" ، "واللامبالاة"، "والحزن" ، "والشك"، "والإنطواء"...أسمع "صوت الإبن" يقرع ..هل أجرؤ على تسليمه مفاتيح أعماق جحيمي ليدخل "ويتعشى معي وأنا معه؟ هل أأذن له أن يكشف لي ملامح وجهه، ملامح روح الحبّ الذي يمنح قلبي أن يتمتم ويهتف : "تعال ايّها الربّ يسوع"..
الثلاثاء 3 كانون الأوّل 2013
نقاط الصلاة :
النقطة الأولى :
أنتقل بمخيّلتي إلى بحيرة طبرية ، أجلس على شاطئها واتمتّع بشمسها الدافئة ..أراقب الحركة المحيطة بها : التلاميذ، الجموع، الفريسيون والكتبة..أتأمّل يسوع يُعلِّم، يشفي، يُطعِم، ويشهد لحبّ الآب..أنتبه لمغيب الشمس.. ارى يسوع في نهاية هذا النّهار يخطّط للإنسحاب للصلاة في سكون الليل ..أدخلُ في حركة "أجبر التلاميذ العبور إلى الضفّة المقابلة " "وصرف الجموع"..أجد لي مكانأً بينهم..أسأل نفسي إن كنت أستطيع أن أتّخذ قراراً "بصرف الجموع" التي تملأ نهاري "لأعبُرَ إلى ضفّةٍ أخرى"، وأجد مكاناً ساكناً أرتاح فيه بالربّ؟
النقطة الثانية :
أركب السفينة التي تبتعد عن البّر..أشعر بالليل يدنو منها، بالأمواج تلطمها، بالرياح تخالف مسيرتها..أأجد في حياتي مواقف "إبتعدت عن البرّ، فدنا منها الليل، وصدمتها الأمواج ودفعتها الرياح لمخالفة مسيرتها؟ أَبَدأَ الخوف والإضطراب والقلق يهزّ كياني كلّما اقترب "طيف الربّ مني "؟ أٌغمض عينيّ، أفتح يديّ، وأسمح لمبادرة يسوع أن تلمسني، وكلماته "ثق أنا هو، لا تخاف" ان تتغلغل في أعماق سفينتي.. أُردّدها وأتذوّقها في صمت قلبي..
النقطة الثالثة :
"يا ربّ إن كنت هو، فمرني أن آتي إليك على الماء" . أبحث في مسيرتي الإيمانية كم مرّة كنت بحاجة إلى علامة حسيّة تؤكِّد لي "أنّه هو" ،" أنّه الله معنا"؟ أرى كيف يسوع يحترم حاجتي ويلبّيها.. كيف يعطي علامات حضوره بالقداس، بكلمته، بالأحداث، بالأشخاص لكي أجرؤ "أن أمشي على المياه"، على الصعوبات، على العثرات،على الجروحات..أدعوه "ليركب سفينة قراراتي" ، أصرخ له" نجّني يا ربّ ، وهدّىء عواصف قلبي..
الأربعاء 4 كانون الأوّل 2013
نقاط الصلاة
النقطة الأولى :
أسير في شوارع اريحا..أستعلم عن سبب التجمُّع عند مدخلها..أٌحِبُّ فكرة مرور يسوع في المدينة..أتّجه مع الجموع لاستقباله..أعبّر له عن رغبتي بأن يمُرَ بمحيطي ويعلن بشارته في حياتي..أُقدّمُ له قلبي وعقلي وذاكرتي كلّها..أدعه " يميل الطرف نحوي" ويٌكلّمني..
النقطة الثانية :
ثلاث إعاقات تمنع "زكا" من مشاهدة يسوع : قصير القامة، غنيّ وغير محبوب من محيطه..أراه كيف لا يستسلم لها : يصعد إلى جمّيزة ليحقق هدفه الا وهو رؤية ذاك الرجل الذي اسمه يسوع..أترقّب ردّة فعل يسوع..أفرح عندما أشاهده "ينظر إليه كما لم ينظر إليه أحد من قبل". نظر إليه أبعد من إعاقاته..نظر إلى العمق الذي يملكه، وناداه باسمه..ووعده بالمجيء والمكوث معه..أأستطيع أن أسمع الربّ يدعوني اليوم باسمي ويقول لي : " يا ......أُريد أن أكون اليوم معك، وأن أمكثّ عندك..."؟؟
النقطة الثالثة :
يدهشني خيار يسوع ل"زكا" من بين كلّ هذه الحشود..أندهش اكثر للتغيير السريع الذي حدث له ما إن زاره في بيته وأكل معه.. إذا ما شعرتُ أنّ يسوع اختارني أنا أيضأً، ويرغب بي شخصيّاً، أقوم وأقف مع "زكا" أمام كلّ "المتذمّرين" وأقول معه للربّ : "يا ربّ، ها إني أُعطيك اليوم ما أنا عليه ، من إعاقة ، من فتور، من عطايا نائمة في زوايا مخفيّة، أهبك ما أستطيع أن أٌقدِّمه، فحوّله بروحك القدوس شهادة فرح ورجاء ومحبّة ، فيعرف الجميع بأن "بيتي عرف اليوم خلاصك."
الخميس 5 كانون ألأوّل 2013
نقاط الصلاة :
النقطة الأولى :
كمرّة أولى أقرأ بتأنٍ المزمور ..في المرة الثانية ، أختار منه آية أو أكثر تحدّث قلبي وتغذّيه..أردِّدها.. أتذوقها.. أميّز صداها في مشاعري وأحاسيسي وقراراتي..
النقطة الثانية :
أكتشف كيف أن هذا المزمور يبدأ "بالطوبى " بالفرح .. وينتهي بالإبتهاج.. أبحث عن مصدر هذه السعادة..أجدها في إختبار هذا الرجل "للغفران الإلهي لخطيئته".. أدنو "بقلبٍ صادقٍ وبتمام الإيمان" من الربّ، ناشداً إياه أن يمنحني نعمة الشفاء من كلّ ما يثقل راحتي الداخلية ..
النقطة الثالثة :
أدعو الروح القدس ليسلّط الضوء على كلّ الأعمال التي أُحاول إخفاءها وعدم التحدث بها خجلاً منها..أستشفُ قوّته لأضع يديّ على جروحاتي وألمها، وأمراضي الداخلية الموجعة التي تتآكلني..أُقرّ بها أمام الربّ الذي " يعلِّمني ويرشدني في الطريق الذي أسلكه وعيناه ترعاني.."
الجمعة 6 كانون الأوّل 2013
نقاط الصلاة :
النقطة الأولى :
أتذكّر وقائع كان يتوجّب عليّ فيها الإنتظار: إنتظار من أُحبّ، إنتظار حلول، إنتظار تقييم مهمّ لي، إنتظار جواب، إنتظار اللوتو، إنتظارنهاية قصف، إنتظار نهاية مسلسل، إنتظار قرارات مصيرية ، إنتظار نهاية مراحل مؤلمة...
أسترسل بتمييز مشاعري في كلٍّ منها.. أعي كيف أنّ كلّ انتظار فيه " إرتباط" بمَ "سيأتي من آخر".. أتفاعل مع هذا الشعور الذي يضعني أمام نوع من "الأسر" والتبعية" بانتظار حرية تفاعل الآخر مع " انتظاراتي وآمالي"..أقبل الإنتظارات التي أكون فيها عاجزاً عن أي جواب غير أن أقول : " هنا والآن أنا بحاجة إلى مخلِّص.."
النقطة الثانية :
أتحدّ بكلّ الأشخاص أو الشعوب المقهورة، والمظلومة، والمضطربة..المنتظرة الخلاص من كلّ ما سببّته لذاتها أو فُرِض عليها من الخارج..
أرجو معها "خروج قرار يتفرّع وينمو فيّ وفي قلوب كثيرين"، قرار أن أٌجعل "ذاتي" جواب خلاص للذين ينتظرونه ..أبحث – حيث أنا وبالمعطيات الموهوبة لي - عن أسلوب لزرع "روح الربّ، روح الحكمة والفهم والمشورة، روح القوّة والمعرفة والتقوى " لأحكم "لا بحسب ما ترى العين ولا بحسب ما تسمع الأذن" بل بحسب رحمة الله وعدله وبرّه..
النقطة الثالثة :
أيمكن للذئب والحمل أن يتعايشا بتناغم وتكامل؟ أيُعقل أن ينسجم النمرمع الجدي، والرضيع مع الأفعى..ويسكنا بسلام ووئام؟ أقادر القويّ أن يمدّ الضعيف بقوّته والغنيّ أن يسند الفقير بغناه؟
تحدٍّ صعب.. أنظر إلى كلّ أبعاد حياتي النفسية والجسدية والروحية ,استدعي على كلّ زواياها المشرذمة بالفوضى ، روح المصالحة والتقارب والتفاهم والتكامل ليتمّ فيها "ملء قامة المسيح..."
السبت 7 كانون الأوّل 2013
نقاط الصلاة :
النقطة الأولى :
أَدخُلُ في حركة البركة الصاعدة والنازلة على خطّين بين الأرض والسماء.. أشاهد جواب الإنسان بركة لإنحناء الربّ عليه، وقبوله عطيّة الآب الموهوبة له بالإبن ..
أتوق للمكوث في ديناميكية هذا المشهد، وأدع نفسي تفرح وتبتهج بمباركة الربّ على كلِّ حسناته..
النقطة الثانية :
أشعرت مرّة كم هو مؤلم أن ينسى من أُحبّ كلّ ما فعلتُ لأجله ؟ أو أن تُمّحى كلّ علامات الحبّ بغلطةٍ واحدة إرتُكبت في غالب الأحيان سهواً أو عن غير قصد؟
النسيان نعمة عندما يكون غفراناً، لكنّه لعنةً عندما يعكس إهمالاً أو نكران جميل، أو نكران وجود..
أعودُ بذاتي إلى الماضي، أتحسّس "كلّ حسنات الربّ" التي زيّنت وجودي .. وأندم على كلّ المرّات التي مِلتُ فيها إلى مَحوِ علاماتها في محطّات تاريخي..
النقطة الثالثة :
أتصوّر لقاء كنيسة السماء بكنيسة الأرض حيث الملائكة والخلائق معاً يباركون الربّ ويمجّدونه ..أتّخذ مقصداً خاصاً لمشاركتي المقبلة في الإفخارستيا (أي القداس) ألا وهو أن أتبيّن وأُلاحظ فيه كلَ المواقع والصلوات التي تدعوني بشكلٍ خاص للدخول في وحدة كنيسة الأرض مع كنيسة من سبقونا إلى قلب الآب وننشد معاً "رحمة الرب منذ الأزل وللأبد على الذين يتقونه".
حديث رقم 9
نحن نزرع في الرياضة ولكن لا نحصد دائمًا، إذًا لا نستغرب إذا لم نحصد الآن ولكنّنا سنرى النتائج في ما بعد. حتّى في التأمّلات الّتي لا نشعر فيها بشيء، فالزرع يتمّ في الأعماق. ستأتي أوقات نفهم فيها مالم نفهمه من قبل.
دعوة الخاطئ المغفور له
الخاطئ الّذي عرف الغفران هو إنسان يسمع لدعوة الربّ له. يسوع ومن خلال كلّ حياته يدعونا لكي نأخذ قرارًا معه أو ضدّه. وكأنّه يقول لكلّ واحدٍ منّا: "لديّ حلم، إرادتي أن أصنع الحياة وأقاوم الموت، مشروعي أن أحوِّل العالم إلى ملكوت الله، غايتي أن يصل الإنسان إلى معرفة الله، فمن أُرسل؟ من يقول لي هاءنذا؟ مَن يدخل معي في الصراع مع قوى الموت وصراع الشرّير؟"
وحده الّذي اختبر سرّ الغفران يسمع هذه الدعوة بعُمقها ويفهم أهميَّتها.
الخاطئ المغفور له يستطيع الدخول في الصراع لأنّه كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوجد. لأنّه يعرف في الوقت نفسه العدوّ وحِيَلِه، يعرف الـمُتَّهِم الّذي لا يفوّت فرصة لكي يضلِّلَهُ وفي الوقت نفسه يعرف الروح القدس. لأنّه يعرف المحامي والـمُعزّي والـمُدافع، لا يخاف من الـمُتَّهم. الّذي يعرف غفران الله لا يخاف. قوّة الـمُتَّهم تكون عندما أرفض أن أحمل مسؤوليّة خطيئتي. عندما أرفض أن أعترف بخطيئتي أو أخبّئ خطيئتي بخطيئة أخرى. الـمُتَّهم ليس لديه إلّا الاتّهام.
وحده الخاطئ المغفور له يقدر أن يكون مُعاوِنًا لله. مثل بطرس الّذي عرف مَن هو وما هو غفران الله. ومريم؟ عقيدة الحبل بلا دنس هي عندما غُفر لمريم من قبل الحبل بها وذلك لكي تستقبل المسيح. غُفر لها بالصليب قبل أن يتمّ. خلّصها من الخطيئة قبل أن تُخطئ.
لماذا الخاطئ المغفور له هو مُعاون؟ لأنّه يغفر ويرحم ويتفهّم. لا يسأل عمّن يستحقّ الغفران لأنّه يعرف أنّه هو أوّل شخص لا يستحقّه. يضع رجاؤه لا في قواه الخاصّة بل في النعمة الإلهيّة. الغفران يخلق شركة والكنيسة هي هذه الشركة. هو يعرف أنّ يضع قوّته في وسط هذه الشركة، الكنيسة. إنّه يحبّ الكنيسة. يرى في الظلمة نورًا ويشهد أنّ الله حُبّ. لا يركّز على نفسه، لا ينظر إلى ذاته بل ينظر إلى مخلِّصه. لم يعد يحكم على نفسه فهناك من يحكم عليه. يخرج من الـمُقارنات. يُعطي الأولويّة للمسيح ولصراع المسيح. همّه الأوّل صراع المسيح ولهذا يريد أن يعرف المسيح معرفة حميمة. يريد أن يحبّه ويخدم رسالته. هو صديقه يشعر معه ويقتدي به. يشاركُه كلّ شيء حتّى بنوّته للآب.
كيف خلّصنا المسيح؟
١. من الّذي يحقّ له أن يغفر لقايين الّذي قتل أخاه؟
من الّذي سيرجعه إلى الأخوّة. لا أحد يستطيع أحد أن يغفر لقايين إلّا هابيل. إذا غفر الله له فهو يهدر بهذه الطريقة حقّ هابيل. في التراث اليهوديّ، لهابيل مكانة الحكم على الناس أجمعين لأنّه الضحيّة. يسوع يخلّصنا عندما يأخذ مكان الحكم ويخلّصنا. ولكي يخلّصنا كان يجب أن يكون هو الضحيّة الّتي اختارت مصيرها. في يو ١٨/١٠، يقول يسوع: "لا ينتزع أحد حياتي منّي بل أنا أبذلها بذاتي". ومن هنا تُقال الصلاة في القدّاس المارونيّ: "يا قربانًا شهيًّا قُرِّب عنّا، يا حملاً صار لنفسه حبرًا مقرّبًا...". لأنّ الّذي يُقرِّب والّذي يُقرَّب هو واحد يتمُّ الخلاص.
٢. معرفة الله تحقّق المصالحة:
نحن بحاجة للغفران لأنّنا بالخطيئة دخلنا في تناقض إذ نريد الخير ونصنع الشرّ. هذا التناقض هو نتيجة الخطيئة ونحن نريد الـمُصالحة. عندما نعرف الله ومَن هو، نتصالح معه. أرانا يسوع على الصليب مَن هو الله. هو الّذي يُقيم الأموات والّذي يدعو إلى الوجود الّذي لم يكن موجودًا. جذور الخطيئة هي حذر مِن الله ونَعتقد أنّ إلهنا يُحبُّنا ولكن بشروط. هذه الكذبة تجعلنا غير قادرين أن نستمرّ في الحبّ، لأنّنا لا نصدّق أن الله أحبّنا ونرى هذا في روما 8: 32. الكذبة القديمة هي أنّ الله يحبّني ولكن بشروط. تنكشف هذه الكذبة مع الّذي قاله الله لنا بيسوع على الصليب: "كلّ ما هو لي هو لكَ". كما في قصّة الابن الضالّ. وفي الرسالة الأولى ليوحنّا ٣: "انظروا أي محبةٍ أحبّنا الله…" (١ يو ٣). نحن أبناء الله إذ كلّ ما هو له هو لي.
3. هل بين البشر من يقول هاءنذا؟ هل الإنسانيّة قادرة على الحبّ؟
نرى في أشعيا ٥٩ مشهدًا مُحزنًا ويقول لنا فيه أنّ الله يندهش إذ لا يوجد أحد يقول نعم للحق، يقول له هاءنذا. أهذا معقول أنّه لم يوجد أحد؟ الّذي يتجرأ ويقول هاءنذا هو الّذي يخلّصنا. في رؤيا ٥، نرى أنّ في يد الله كتاب مختوم بسبعة ختوم ولم يوجد أحد ليفتحه، لا على الأرض ولا في السماء. فيطمئِنُه الملاك أنّ هناك من يستطيع هذا. ويرى عندها يوحنّا حملاً. يسوع تجرأ وقال هاءنذا. عندما يتجرأ الإنسان ويقول لله هاءنذا، سيتحمّل عندها كلّ خطيئة العالم. هذه العداوة الموجودة في العالم تقع على أكتاف الّذي يتّخذ هذا القرار. هذا ما حصل في يسوع من بداية حياته وحتّى نهايتها. يسوع خلّصنا بأنّه تجرأ وقال هاءنذا. هي كلمة مُكلِفَة إذ نرى يسوع في بستان الزيتون لا يتوقّف ويسلّم مشيئته للآب. هدف الأسابيع الّتي مضت هي أن نعرف مخلّصنا.
* * *
وصلنا إلى ختام المرحلة الأولى من الرياضة. اختبرنا احتياجنا للمخلّص واكتشافنا له. تمّ هذا عندما اكتشفنا أنّ قلوبنا قاسية بعد ما نظرنا إلى الحبّ. وهذا جعلنا نرى خطايانا، نراها لا بأعين الناس بل بجذورها ورأينا مدى حاجتنا للحبّ. واكتشفنا ايضًا أنّ لنا مُخلِّص. (ماذا أفعل إن لم أنته من هذه المرحلة؟ يجب معرفة أنّ هذه المرحلة مستمرّة دائمًا وربّنا يعرف كيف ينظّم الأمور وسأقطف الثمار في حينها.)
كيف يجب أن أعيش بعد هذه المرحلة؟ إلى أين موجّهة حياتي؟
التوبة
هدف الرياضة الروحيّة هي أن يصبح لحياتي إتّجاه. هدف التمارين أنّ تنظّم حياتي، أن أعيد تأسيس حياتي على أساس سليم: الله. هذه هي التوبة. لنقرأ من جديد أشعيا 55: 1-11:
55 1 أَيُّها العِطاشُ جَميعاً هَلُمُّوا إِلى المِياه، والَّذينَ لا فِضَّةَ لَهم هَلُمُّوا اشتَروا وكُلوا هَلُمُّوا اشتَروا بِغيرِ فِضَّةٍ ولا ثَمَن خَمْراً ولَبَناً حَليباً. 2 لِمَاذا تَزِنونَ فِضَّةً لِما لَيسَ بِخُبْز وتَتعَبونَ بما لا شبع فيه؟ اسمعوا لي سَماعاً وكُلوا الطَّيِّب، ولتتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ نُفوسُكم.
3 أَميلوا آذانَكم وهَلُمُّوا إِلَيَّ، اسمعوا فتَحْيا نفوسُكم. فإِنِّي أُعاهِدُكم عَهداً أَبَدِيّاً على الخَيراتِ الَّتي وُعِدَ بِها داوُد.
4 هاءَنَذا جَعَلتُه لِلشُّعوبِ شاهِداً لِلشُّعوبِ قائِداً وآمِراً. 5 ها إِنَّكَ تَدْعو أُمَّةً لم تَكُنْ تَعرِفُها وإلَيكَ تَسْعى أُمَّةٌ لم تَكُنْ تَعرِفُكَ بِسَبَبِ الرَّبِّ إِلهِك وقُدُّوسِ إسْرائيلَ الَّذي مَجَّدَكَ.
6 التَمِسوا الرَّبَّ ما دامَ يوجَد، أُدْعوه ما دامَ قَريباً.
7 لِيَترُكِ الشِّرِّيرُ طَريقَه والأَثيمُ أَفْكارَه ولْيَرجِعْ إِلى الرَّبِّ فيَرحَمَه، وإِلى إِلهِنا فإِنَّه يُكثِرُ العَفْوَ
8 فإِنَّ أَفكاري لَيسَت أَفْكارَكم ولا طرقُكم طُرُقي، يَقولُ الرَّبّ.
9 كما تَعْلو السَّمواتُ عنِ الأَرض كذلك طُرُقي تَعْلو عن طُرُقِكم وأَفْكاري عن أَفْكارِكم
10 لِأَنَّه كما يَنزِلُ المَطَرُ والثَّلجُ مِنَ السَّماء ولا يَرجِعُ إِلى هُناك دونَ أَن يُروِيَ الأَرض ويَجعَلَها تُنتِجُ وتُنبِت لِتُؤتِيَ الزَّارعَ زَرعاً والآكِلَ طَعاماً، 11 فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة، بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه.
يدور هذا النصّ كلّه حول عمل كلمة الله: "اسمعوا لي سماعًا، اسمعوا فتحيا نفوسكم"، هذه الكلمة الّتي تخرج من الله ولا تعود إليه إلاّ بعد أن تنجح في رسالتها. وما رسالتها؟ أن يترك الشرّير طريقه وأفكاره فيختبر رحمة الله وغفرانه. لأنّ أفكار الله وطرق الله مختلفة عن أفكارنا وطرقنا. فالدعوة إلى الإصغاء إلى كلمة الله تهدف وتحقّق تغيير الأفكار وتغيير الطرق. التوبة هي هذا التغيير. ليست التوبة أسفًا واعتذارًا، بل تغيير في الأفكار (باليونانيّة توبة = ميتانويا = تغيير الأفكار) وفي السلوك (بالسريانيّة توبة = تغيير الطريق). لا أنتفع شيئًا إن أسفتُ على خطيئتي وقرّرتُ مقاومتها إن لم تتغيّر أفكاري عند إصغائي للكلمة، حتّى تتغيّر طرقي بتغيّر أفكاري. هذا النصّ يتوجّه إلى شعب مهجّر مسبيّ في بابل. يقول: نسيني الربّ وتركني سيّدي! يقول: بسبب خطيئتي أنا أدفع الثمن. أمّا الله فيقول: أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ ويقول: لأنّك تركتَ أرضك وخسرت حروبك، ها إنّ كلمتي تصل إلى شعب غريب، وهي تعدو عدوها من خلالك: "ها إِنَّكَ تَدْعو أُمَّةً لم تَكُنْ تَعرِفُها وإلَيكَ تَسْعى أُمَّةٌ لم تَكُنْ تَعرِفُكَ بِسَبَبِ الرَّبِّ إِلهِك وقُدُّوسِ إسْرائيلَ الَّذي مَجَّدَكَ." حتّى خسارتك ونتيجة خطيئتك صارت طريق الكلمة الّتي تأتي لتعطي الحياة. باختصار، التوبة هي: "اسمعوا فتحيا نفوسكم". الإصغاء إلى الله هو التوبة، ويتطلّب أن أميّز بين أفكار الله وأفكار البشر، وهي الأفكار الّتي تسجنني في يأسي، أو تعدني بسعادة كاذبة ("لِمَاذا تَزِنونَ فِضَّةً لِما لَيسَ بِخُبْز وتَتعَبونَ بما لا شبع فيه؟").
تنظيم الحياة
لا يعني تنظيم حياتي أن أديرها، مثلاً أن أُسيطر على وقتي. وهذا غير ممكن. الأزمنة ليست ملكًا لنا. الله يُدير الأزمنة. هي ليست عدم هدر الوقت بل سنكتشف يومًا أنّ الأوقات المهدورة هي ضروريّة لخصوبتنا. إذًا ما هو تنظيم الحياة؟
هو حُسن استخدامها. إذا أخذنا مثال الذاكرة. كيف نُحسن استعمالها. يقول لنا القدّيس أوغسطينوس: إنّ الذاكرة خُلقت للشكر. أتذكّر الأمور الجيّدة وأيضًا العاطلة منها لكي أصل إلى الشكر. حُسن استخدام الذاكرة يوصلني إلى الشكر. وعندما أصل إلى الحزن عليّ أن أستمر حتّى أصل إلى الشكر.
حُسن استخدام العُنف هو في قدرتي على تغيير العالم. عندما أرى ظلمًا في المجتمع، أقرّر أن ألتزم في سبيل عالمٍ يوجد فيه أكثر عدالة. هو شعور الثورة لفعل الأمور الجيّدة.
يكون حُسن استخدام اللّسان عندما أستعمله، أنا، الكائن الّذي يتكلّم أمام الله، لهدف الخلق بدل الهدم. يكون تنظيم الحياة عندما أقرّر أن استخدم كلامي، تصرّفاتي لكي أقول لكلّ إنسان: "كُن".
عندما أكون في موقع سُلطة، يجب أن أستخدمها في سبيل أن تُعطي قوّة وتعزية وتشجيع للناس الّذين حولي.
تنظيم الحياة يكون أيضًا في الجسد. غاية الجسد أن يجعل الحبّ منظورًا. الحبّ غير مرئي ولكن يظهر عندما يبذل الجسد نفسه في سبيل الآخرين. الجسد هو مجد الله لأنّه يُظهِر الله. غاية الجسد أيضًا التواصل والتواصل يكتمل حين يحمل كلمة الله. المطلوب في التواصل هو الصدق. حين يسكن الصدق في جسدي، حياتي تكون منتظمة.
وأخيرًا، تنظيم الحياة هو كما في المبدأ والأساس: أن تخضع الوسيلة للغاية، لا العكس. حياتي في فوضى حين لا أميّز الأساسيّ من الثانويّ، وحين أخلط بين المطلق وغير المطلق. يظنّ البعض أنّ الاعتدال والتوازن هما علامة الحياة المنظّمة، والمبالغة والإسراف علامتا الفوضى. هذا ليس صحيحًا، فللاعتدال مكان وللإسراف مكان. إن كان هدفي من الاعتدال مثلاً الصحّة، صار الاعتدال وسيلة، وأمّا الصحّة فغاية أعمل لأجلها بإسراف. الاعتدال هو في الوسائل لأنّها نسبيّة، والإسراف هو في سبيل الغاية لأنّها مطلقة. في نصّ المبدأ والأساس، الاعتدال هو في تعلّقنا بالمخلوقات والإسراف (يسمّيه "المزيد") هو في ما يقودني إلى تحقيق خلاصي الّذي هو دعوة الله لي إلى الوجود. في ما سيأتي في الرياضة، سنحاول الاقتراب قدر الإمكان من هذه الدعوة. سنكتشف أنّ لكلّ منّا دعوة خاصّة فيها نبذل ذواتنا. ولكن ما وصلنا إليه حتّى الآن هو أنّ لنا مخلّصًا وحده يستحقّ أن نبذل أنفسنا بإسراف في سبيله.
* * *
إنّ وصولنا إلى ختام المرحلة الأولى، ووصولنا إلى التوبة والمصالحة، لا يعنيان أنّنا لم نعد نخطئ. وعلمنا بأنّ لنا مخلّصًا لا يعني أن نتساهل مع الخطيئة. بالعكس. الطبيعيّ هو أن يقودنا تعلّقنا بالمخلّص إلى كره الخطيئة. ولكن منذ الآن، فإنّ خطايانا الماضية (لأنّها لا تُمحى) والقادمة (لا سمح الله) تصير جزءًا من العالم الّذي أتى المسيح يخلّصه. منذ الآن، أضع نفسي من جهة المخلّص الّذي يريد أن يخلّص العالم بأجمعه وأنظر إلى خطيئتي على أنّها جزء من صراع الربّ. أمّا أنا فأريد أن أصارع معه. هو (والآن أنا) يعلم كم أنا ضعيف ومتقلّب، ولكنّه يقبل بي ويدعوني إلى الصراع إلى جانبه. أتبنّى أفكاره ونظرته: لن أخاف من خطيئتي بعد اليوم، ولكنّني لن أتساهل معها. ولذلك عليّ أن أحاربها بحكمة وقوّة.
بخصوص الصلاة مع وصايا الله العشر:
الوصايا العشر
أنا هو الربّ إلهك، لا يكن لك إله غيري
لا تحلف باسم الربّ بالباطل (قدّس اسم الربّ)
احفظ يوم الربّ
أكرم أباك وأمّك
لا تقتل
لا تزنِ
لا تسرق
لا تشهد بالزور
لا تشتهِ زوج قريبك
لا تشته مقتنى غيرك
|
الصلاة مع الوصايا العشر
صلاة تمهيدية. أطلب نعمة الله ربنا لكي أستطيع أن أعرف في أي شيء خالفُت الوصايا العشر. وأطلب أيضاً النعمة والعون لكي أصلح ذاتي في ما بعد، وأطلب فهم لوصايا فهما تاماً لكي أحفظها حفظاً أكمل، وأمجد وأسبح العزة الإلهية على وجه أفضل.
أراجع الوصايا الواحدة تلو الأخرى متنبّهًا إلى معناها، وإلى أمانتي لها، وإلى وسائل تنظيم حياتي على أساسها، شاكرًا الربّ على كلماته الّتي تخرجني من العدم إلى الوجود.
مناجاة
أبانا الّذي في السماوات...
|
مشاهدة لبلوغ الحب
قبل كل شيء، يحسن الالتفات إلى أمرين، أولاً: أن نجعل الحب في الأفعال أكثر منه في الأقوال. ثانياً: يقوم الحب على الهبة المتبادلة، أي أن المحب يهب المحبوب ما له أو جزءاً مما له من إمكاناته، كذلك المحبوب يبادل المحب. عليه، فإن كان أحدهما صاحب علم، وهبه لمن لا يملكه، قس على هذا أمر أنواع الكرامة والغنى، وذلك بالتبادل.
تصوّر المكان. وهنا أرى كيف أني في حضرة الله ربنا والملائكة والقديسين وهم يتشفعون لي.
طلب النعمة: وهنا أطلب معرفة كل ما نلته من الخير معرفة باطنية، حتى إذا اعترفت بذلك تماماً أستطيع أن أحب عزته الإلهية وأخدمها في كل شيء.
النقطة الأولى: أُعيد إلى ذاكرتي ما نلت من إحسانات، من خلق وفداء وهبات خاصة. وأقدر بكثير من الشعور ما أكثر ما أنعم الله ربنا عليّ، وما أكثر ما هبني مما عنده، ثم ما أشد ما يرغب الرب أن يهبني نفسه ما أستطاع، وفقاً لقصده الإلهي. أفكر عندئذ في نفسي، معتبراً ما يجب عليّ – بكل رشد وبر – أن أقدمه وأهبه من جهتي لعزّته الإلهية، أي كل ما لي وذاتي معاً، كمن يقدم تقدمة بكل جوارحه، فأقول: "خذ، يارب، واقبل حريتي كلها، وذاكرتي وعقلي وإرادتي كلها، كل ما هو لي وكل ما هو عندي. أنت وهبتني ذلك، فإليك أعيده، يارب. كل شيء لك، فتصرف فيه بكامل مشيئتك. هبني أن أحبك، هبني هذه النعمة، فهذا يكفيني".
النقطة الثانية: أنظر كيف أن الله يسكن في الخلائق: ففي العناصر بهبة الوجود، وفي النباتات بهبة النمو، وفي الحيوانات بهبة الحس، وفي البشر بهبة الفهم، في إذا بهبة الوجود والحياة والحس والفهم، كذلك كيف أنه يجعل مني هيكله، وقد خلقني على مثال عزته الإلهية وصورتها. أعود فأفكر في نفسي، بالطريقة الوارد ذكرها في النقطة الأولى، أو بطريقة أخرى أشعر بانها أفضل. وأجري على هذا النسق في كل من النقطتين التاليتين.
النقطة الثالثة: أعتبر كيف أن الله يعمل جاهداً ويسعى لأجلي في جميع المخلوقات التي على وجه الأرض، أي كيف أنه يتصرف كمن يعمل جاهداً في السموات مثلاً، والعناصر والنباتات والثمار والقطعان، الخ، واهباً لها الوجود والبقاء والحياة والحس، الخ. ثم أفكر في نفسي.
النقطة الرابعة: أنظر كيف أن جميع الخيرات وجميع الهبات تنحدر من علُ، فمثلاً كيف أن قدرتي المحدودة تنحدر من القدرة العلوية السامية واللامتناهية، وكذلك البر والصلاح والتحنن والرحمة، الخ، كما أن الأشعة تنحدر من الشمس، والمياه من الينبوع، الخ. ثم أختم بالتفكير في نفسي، كما ورد ذكره.
أختم بمناجاة وبتلاوة "أبانا".
No comments:
Post a Comment