أسبوع رقم 26


أسبوع رقم 26


ندخل في السرّ، سرّ آلام الربّ وموته وقيامته، شيئًا فشيئًا. بدأنا بالدخول عن طريق الشعور: كيف يستقبل يسوع "الساعة"؟ كيف يستقبلها بطرس ويهوذا؟ كيف تدخل فيها مريم؟ سنكمل هذه المسيرة اليوم. شيئًا فشيئًا نريد أن نفهم: لمَ كان يجب على يسوع أن يموت ليدخل في مجده، ليخلّصنا؟
درب الصليب يقوم على محطّات، أماكن نحتاج إلى أن نتآلف معها لكي تسلمنا سرّها. أتوقّف على خمسة أماكن: العلّيّة (مكان الغسل والإفخارستيّا، وتعليم يسوع الأخير لتلاميذه، حيث بلغ به الحبّ لهم أقصى حدوده)؛ ثمّ بستان الزيتون (مكان اللقاء المعتاد مع التلاميذ، مكان صراع يسوع مع تجربة الانقباض، مكان الوحدة وخيبة الأمل، مكان الاعتقال)؛ ثمّ المحاكمات (في مجلس اليهود أوّلاً ثمّ في دار الحاكم بيلاطس، هو مكان المهزلة: مهزلة عدالة الإنسان، مهزلة الكذب، مهزلة النكران، مهزلة الاستهزاء بالبريء، مهزلة التنكّر للعهد)؛ ثمّ الجلجثة (طريق الصليب، المكان الّذي شهد أنفاس يسوع الأخيرة)؛ ثمّ القبر. في المرحلة المقبلة ليس المهمّ أن نتبع بدقّة النصوص المقترحة للرياضة. يمكننا أن نذهب إلى إحدى هذه المحطّات وأن نقضي فيها وقتًا نشاهد ما الّذي يحصل، ساعين دائمًا إلى نعمة هذا الأسبوع: الشعور مع المسيح، والشعور مع التلاميذ (أي الخجل).
مشاهد الآلام تحتوي على عناصر محدّدة يمكننا أيضًا أن نتوقّف عندها:
1.    الساعة: تكلّمنا المرّة الماضية عن ساعة يسوع، ولكنّنا نضيف الآن ميزتين لهذه الساعة: فيها يغيّر يسوع أسلوبه، فهو الّذي كان صاحب المبادرة، ينادي بالتوبة واقتراب الملكوت، يعلّم ويشفي ويطرد الشياطين، يدخل الآن في الصمت أكثر فأكثر، يصير منقادًا ومنفعلاً، يذهبون به "إلى حيث لا يشاء". يسألونه عن تعليمه فيشير إلى تلاميذه في الساعة نفسها الّتي فيها ينكره بطرس. إنجيل يوحنّا يشير إلى هذا الاختلاف: أليس النهار اثنتا عشرة ساعة؟ فعلينا أن نسير ما دام النهار، لأنّ الليل آت وفيه لا يستطيع أحد أن يفعل شيئًا. هذا الليل هو ساعة سيّد هذا العالم الّذي هو آتٍ، وليس له شيء على يسوع، "وغنّما ليظهر أنّي أحبّ الآب" سيبدو وكأنّ سيّد هذا العالم هو المنتصر. وهنا الميزة الثانية: هذه الساعة تكشف أنّ ما يبدو في الظاهر غير الحقيقة: في الظاهر يقبضون على يسوع ويسوقونه ظلمًا، ولكن خلف هذه الحقيقة حقيقة أعمق: إنّ الآب يسلم الابن الكأس والابن يقبلها. في الظاهر ينتزعون من يسوع الحياة، أمّا في العمق: "حياتي ما من أحد ينتزعها منّي بل أنا أبذلها برضاي" (يو 10: 18). تعطينا هذه الساعة نورًا جديدًا فيه نقرأ حياتنا بطريقة أخرى. في داخل الظروف نرى يد الله يحقّق الخلاص.

2.    الجسد: كثيرًا ما يدور الكلام على الجسد في أسرار الآلام: في الإفخارستيا يسوع يعطي جسده، في بستان الزيتون يحثّ تلاميذه على الصلاة لئلاّ يقعوا في التجربة لأنّ "الروح مستعدّ وأمّا الجسد فضعيف"، وفي النهاية يسوع يختبر ألم الجسد وموت الجسد. الجسد يختفي. وحتّى في القيامة، هي قصّة جسد جديد. لأنّ السرّ الفصحيّ سرّ ولادة جديدة، مخاض يؤدّي إلى جسد جديد. المخاض صورة يستخدمها بولس وكذلك يسوع في يوحنّا. المخاض هو سرّ الصليب. ليس كلّ ألم صليبًا. الصليب قدرة فائقة لتحويل الألم إلى مخاض. حين نرى في الألم مخاض، وضعنا في الألم وعدًا. حين يحمل الألم وعدًا يصير مقبولاً لأجل خصوبته، لا لأجل ذاته. (راجع روما 8: 18-28: المسيحيّ قادر أن يسمع في أنين الخليقة صراخ المخاض، ذلك لأنّ المسيحيّ نفسه يئنّ بانتظار اكتماله، وهذا لأنّ الروح نفسه يتمخّض فينا بأنّات لا توصف. ليس آلامنا الله يرسلها وإنّما هي شركة مع إله يتمخّض). الجسد هو أيضًا صورة التضامن والاتّحاد. الاتّحاد الزوجيّ مثلاً: "جسد واحد". الجسد حسّاس. هو يحمل آثار تاريخي كلّه. أدخل في الصلاة بالجسد. أدخل ومعي كلّ تاريخي. لا أستطيع أن أكون أمام الله وحدي. أنا أحمل أشخاصًا، شئتُ أم أبيت، معي كلّ من ساهم بأن أكون من أنا. من هنا الجسد يقودني إلى فكرة الشفاعة. ما الشفاعة؟ حضوري امام الله لا يكتمل بدون فلان. كلّ مصالحة يكملها الله فيّ لا يكتمل بدون من هو معي. الشفاعة ليست لائحة أشخاص أذكرهم، بل هي أن أدع نفسي أتأثّر. ما معنى شفاعة القدّيسين؟ هي شركة مع ما ناله القدّيسون. معاشرتي القدّيسين يعكس عليّ ما نالوه. اتّصالي بالقدّيسين هو في جسد المسيح. هو تواصلي معهم.
خلّصنا المسيح لأنّه شاركنا بأكثر ما فينا لا يقبل الخلاص: الخطيئة. انطبع فينا حتّى صار خطيئتنا. خطيئتي هي له لأنّه ترك نفسه ينطبع بالبشر إلى أقصى الحدود. جسده هو جسد الشفاعة. الصليب هو مكان الشفاعة. حيث يسوع يحمل أمام الآب كلّ خطيئة البشر.

3.    الأمّ: في إنجيل يوحنّا لا تُذكر الأمّ بالاسم. هي "أمّ يسوع" في عرس قانا الجليل (الفصل 2)، وهي"الأمّ" على أقدام المصلوب (الفصل 19). في المرّة الأولى يتعجّب يسوع من كلامها: "ما لي ولكِ يا امرأة، لم تأتِ ساعتي بعد". أيّ ساعة؟ ساعة يسوع هي ساعة الصليب. وكأنّ يسوع في كلماته يؤكّد أنّ دورها لا يظهر إلاّ حين تأتي تلك الساعة. مكانة الأمّ أمام الصليب، هناك دورها. عند ذاك لا يتعجّب من رؤيتها، بل يقول لها: "يا امرأة، هذا ابنكِ". من هذا؟ هو التلميذ الّذي كان يسوع يحبّه. هذا التلميذ الّذي لم يُذكر اسمه، لكي يبقى في الإنجيل مكانًا فارغًا يملأه القارئ. هذا التلميذ هو من وضع رأسه على صدر يسوع. وراء الكلمات، يسمع قلب يسوع. وهذا القارئ هو من يستلم من يسوع هذه الكلمات: "هذه أمّك"، لكي يأخذها إلى بيته. الذي يقرأ ويفهم هو الّذي يأخذ الأمّ في بيته ليكون ابنها، مولودًا منها لحياة جديدة، فيصير أيضًا الّذي "يرى ويشهد" (يو 19: 35). الأمّ عنصر من عناصر الساعة، لا أعرف كيف ولماذا، ولكن أعرف أنّ تلك الساعة لا تكتمل بدون دورها.

4.    الحبّ: "بلغ به الحبّ إلى أقصى حدوده." المأساة الّتي ترويها لنا رواية الآلام هي مأساة حدود حبّ الإنسان.  الحبّ المحدود بالموت وبالخطيئة. إلى أيّ مدى نستطيع أن نذهب بالصداقة والحبّ. يسوع أعطى جوابه. الحبّ مهدّد بالموت. جسدنا قادر على الحبّ إلى حدّ ما. مطبوع بالأنانيّة، بالعجز. لا يستطيع أن يقيم من الموت، لا يستطيع أن يحقّق رغبته. قصّة يسوع تخبر عن حبّ أقوى من الموت، هو حبّ الآب. حبّ يعطي جسدًا جديدًا قادرًا على الحبّ. إن لم نفهم أنّ الآب يريد أن يسكب فينا حبّه وجسدنا غير قادر عليه لا نفهم شيئًا من السرّ الفصحيّ. 

5.    التحوّل: يسوع الراسخ في الحياة يتحوّل إلى الإنسان المهدور. القدّوس الّذي لا مساومة فيه يبدو كالريشة الّتي تلعب فيها الرياح. أخذ حالة الإنسان الشرّير. الفاعل يصير المنفعل. "أمّا أنا فدودة لا إنسان". لمَ هذا التحوّل؟ لو لم يصر يسوع الإنسان المهدور لما أخذ مكاني. لو لم يكن موته عشوائيًّا لما أخذ وضعي. أخذ رعبي من الموت. لم يهرب لأنّه واثق بالآب، ولكنّه اختبر خوفي. موت المسيح عشوائيّ... هذا ما لم يستع بطرس قبوله. مات هدرًا، هباء. التحوّل أساسيّ في السرّ الفصحيّ: أخذ ما لي ووهبني ما له. حين نتسرّع ونجيب على السؤال لماذا الشرّ، وضعنا معنى للشرّ!! لا ردّ فكريّ على الشرّ وإلاّ لعاد يسوع بطلاً يغلب الشرّ. لا حلّ بل قرار... لا نعطي الشرّ مكانًا في نظامنا وإلاّ لم يعد شرًّا. (مثال مار منصور: يأخذ مكان المتألّم).


المرّة المقبلة: هل يمكننا أن نتقدّم في الفهم بالعقل؟؟؟



تأمّل في سبع كلمات قالها يسوع على الصليب
١. إغفر لهم يا أبتي لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون (لوقا ٢٣\٣٤)
٢. اليوم تكون معي في الفردوس (لوقا ٢٣\٤٣)
٣. يا امرأة هذا ابنُكِ، هذه أمّكَ (يوحنّا ١٩\٢٦-٢٧)
٤. أنا عطشان (يوحنّا ١٩\٢٨) 
٥. إلهي إلهي لماذا تركتني (مرقس ١٥\٣٤)
٦. تمّ كل شيء (يوحنّا ١٩\٣٠) 
٧. يا أبتاه في يديك أجعل روحي (لوقا ٢٣\٤٦)

No comments:

Post a Comment